للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: أعرف متزوجًا، أحب أشد الحب وأَمَضّه، حتى استهام وتدلّه، فكان مع هذا لا يكتب رسالة إلى حبيبته حتى يستأذن فيها زوجته، كيلا يعتدي على شيء من حقها. وزوجته كانت أعرف بقلبه وبحب هذا القلب، وهي كانت أعلم أن حبه وسُلْوانه إنما هما طريقتان في الأخذ والترك بين قلبه وبين المعاني، تارة من سبيل المرأة وجمالها، وتارة من سبيل الطبيعة ومحاسنها. فتنهّدت وقالت: يا عجبًا! وفي الدنيا مثل هذا الزوج الطاهر، وفي الدنيا مثل هذه الزوجة الكريمة؟

ثم إنها وَجَمَتْ هُنَيْهَةً تجتمع في نفسها اجتماع السحابة، ثم استدمعتْ، ثم أرسلت عينيها تبكي؛ فبدرت أنا أُرَفِّه عنها حتى كفكفت من دمعها، وكأن "ح" قد وخزها في قلبها وخزة أليمة بذكره لها الزوجة, ثم الزوجة الطاهرة، ثم الطاهرة حتى في وسوسة شيطان الغيرة. ارتفع ثلاث مرات بالزوجة، لترى هذه المسكينة أنها سافلة ثلاث مرات, وكأنه بهذا لم يكلمها، بل رسم لها صورتها في عيشها المخزي, وقال لها: انظري.

ويا ما كان أجملها يترقرق الدمع في عينيها الفاتنتين الكحيلتين، فيبث منهما حزنًا يخيل لمن رآه، أنه من أجلها سيُحزن الوجود كله!

ليس البكاء من هاتين العينين بكاء عند من يراه إذا كان من العاشقين، بل هو فن الحزن يضع جمالًا جديدًا في فن الحسن. وأكاد أعجب كيف وجد الدمع مكانًا بين المعاني الضاحكة في وجهها، لو لم يكن هذا الدمع قد جاء ليُظهر على وجهها الفن الآخر من جمال المعاني الباكية.

وسألتها: ما الذي خامر قلبكِ من كلام الأستاذ "ح" فأبكاكِ، وأنت كما أرى يتألق النور على جدران المكان الذي تَحُلّين به، فيظهر المكان وكأنه يضحك لك؟

فتشكَّكت لحظة ثم قالت: أبك ما تقول أم أنت تتهكم بي؟

قلت: كيف يخطر لك هذا وأنا أحترم فيك ثلاث حقائق: الجمال، والحب، والألم الإنساني؟

قالت: لا تثريب عليك١ ولكن صور إلي ببلاغتك كيف أحببتك وأنت غير متحبب إلي، وكيف جادلت نفسي فيك وداورتها، وكلما عزمت انحل عزمي؟ فهذا


١ أي: لا عتب عليك.

<<  <  ج: ص:  >  >>