الفتى، فلا يزال يمشي من حيث لا يصل، ولا تزال تمنعه من حيث لا تردّه؛ وما ذلك من فضيلة ولا امتناع، ولكنها غريزة الأنوثة في الاستمتاع بسلطانها، وإثباتها للرجل أن المرأة هي قوة الانتظار، وقوة الصبر؛ وأن هذه التي تحمل جنينها تسعة أشهر في جوفها، تمسك رغبتها في نفسها مدة حمل فكري إذا هي أرادت الحياة لرغبتها؛ ليكون لوقوعها وتحققها مثل الميلاد المفرح.
ولكن الميلاد في قصتي لا يكون لرذيلة هذه الفتاة، بل لفضيلتها؛ فإن المرأة في رأيي -ولو كانت حياتها محدودة من جهاتها الأربع بكبائر الإثم والفاحشة- لا يزال فيها من وراء هذه الحدود كلها قلب طبيعته الأمومة، أي: الاتصال بمصدر الخلق، أي: كل فضائل العقيدة والدين؛ وما هو إلا أن يتنبه هذا القلب بحادث يتصل به فيبلغ منه، حتى تتحول المرأة تحول الأرض من فصلها المقشعرّ المجدب، إلى فصلها النضر الأخضر.
ففي قصتي تذعن الفتاة لصاحبها في يوم قد اعترتها فيه مخافة، ونزل بها هم، وكادتها الحياة من كيدها؛ فكانت ضعيفة النفس بما طرأ عليها من هذه الحالة. وتخلو بالفتى وفكرها منصرف إلى مصدر الغَيْب، مؤمِّل في رحمة القدَر؛ ويخلبها الشاب خلابة رُعُونته وحبه ولسانه، فيعطيها الألفاظ كلها فارغة من المعاني، ويقر بالزواج وهو منطوٍ على الطلاق بعد ساعة؛ فإذا أوشكت الفتاة أن تُصرَع تلك الصرعة دوَّى في الجو صوت المؤذن:"الله أكبر! ".
وتُلسَع الفتاة في قلبها، وتتصل بهذا القلب روحانية الكلمة، فتقع الحياة السماوية في الحياة الأرضية، وتنتبه العذراء إلى أن الله يشهد عارها، ويفجؤها أنها مقدمة على أن تفسد من نفسها ما لا يصلحه المستحيل فضلًا عن الممكن، وترنو بعين الفتاة الطاهرة من نفسها إلى جسم بَغِيّ ليست هي تلك التي هي؛ وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسق ليس هو ذاك الذي هو؛ ويحكي لها المكان في قلبها المفطور على الأمومة, حكاية تثور منها وتشمئزّ؛ ويصرخ الطفل المسكين صرخته في أذنها قبل أن يولد ويلقى في الشارع!
الله أكبر! صوت رهيب ليس من لغة صاحبها ولا من صوته ولا من خسته، كأنما تُفرِغ السماء فيه ملء سحابة على رجس قلبها فتُنْقِيه حتى ليس به ذرة من دنسه الذي ركبه الساعة. كان لصاحبها في حس أعصابها ذلك الصوت الأسود، المنطفئ، المبهم، المتلجلج مما فيه من قوة شهواته؛ للمؤذن صوت آخر في