بعض، فلا يقوم به إلا الغش والمكر والخديعة، وكل خارج على شريعة أو فضيلة أو منفعة اجتماعية، فإنما ينزع إلى ذلك إرضاء لنفسه وإيثارًا لها وموافقة لمحبتها وتوفية لحظها؛ وعمله هذا الذي يلبسه الوصف الاجتماعي الساقط ويسميه باسمه في اللغة، كالرجل الذي يرضي نفسه أن يسرق ليغتني، فإذا أعطى نفسه رضاها فهو اللص؛ وكالتاجر في إرضاء طمعه هو الغاشّ، وكالجندي في إرضاء جبنه هو الخائن، وكالشاب في إرضاء رذيلته هو الفاسق، وهلم جرًّا وهلم جرجرة.
وأما بعد، فالقصة في هذه الفلسفة قصة رجل فاضل مهذب قد بلغ من العلم والشباب والمال، ثم امتحنته الحياة بمشكلة ذهب فيها نوم ليله وهدوء نهاره حتى كَسَفت باله وفرّقت رأيه، وكابد فيها الموت الذي ليس بالموت، وعاش بالحياة التي ليست بالحياة.
قال: فقدتُ أمي وأنا غلام أحوج ما يكون القلب إلى الأم، فخشي علي أبي أن أستكين لذلة فقدها فيكون في نشأتي الذل والضراعة، وكبر عليه أن أحس فقدها إحساس الطفل تموت أمه فيحمل في ضياعها مثل حزنها لو ضاع هو منها؛ فعلمني هذا الأب الشفيق أن الرجل إذا فقد أمه كان شأنه غير شأن الصبي؛ لأن له قوة وكبرياء؛ وألقى في رُوعي أني رجل مثله، وأن أمه قد ماتت عنه صغيرًا فكان رجلًا مثلي الآن.
وكان من بعدها إذا دعاني قال: أيها الرجل, وإذا أعطاني شيئًا قال: خذ يا رجل, وإذا سألني عن شأني قال: كيف الرجل؟ وقل يوم يمر إلا أسمعنيها مرارًا، حتى توهمت أن معي رجلًا في عقلي خلقته هذه الكلمة. وتمام الرجل بشيئين: اللحية في وجهه، والزوجة في داره، فتجيء الزوجة بعد أن تظهر اللحية لتكون كلتاهما قوة له، أو وقارًا, أو جمالًا، أو تكون كلتاهما خشونة، أو لتكونا معًا سوادين في الوجه والحياة.
أما اللحية لي أنا أيها الرجل الصغير, فليس في يد أبي ولا في حيلته أن يجيء بها، ولكن الأخرى في يده وحيلته؛ فجاءني ذات نهار وقال لي: أيها الرجل! إن فلانة مسماة عليك١ منذ اليوم, فهي امرأتك فاذهب لترى فيك رجلها.
١ هذا هو التعبير العربي الصحيح لقولهم قبل العقد: "مخطوبة لفلان".