والمروءة والغيرة على العرض، لم يكن فيها شيء من هذا؛ ولم يكن الأبناء يومئذ يعترضون آباءهم فيمن اختاروهن؛ إذ النسل هو امتداد تاريخ الأب والابن معًا، والأب أعرف بدنياه وأجدر أن يكون مبرأ من اختلاط النظرة، فيختار للدين والحسب والكمال، لا للشهوة والحب وفنون الخلاعة؛ ولا محل للاعتراض بالعشق في باب من أبواب الأخلاق، بل محله في باب الشهوات وحدها.
ثم جزم الأب أن الولد الذي يجيء من عاشقين، حري أن يرث في أعصابه جنون اثنين وأمراضهما النفسية وشهواتهما الملتهبة؛ ولهذا وقف الشرع في سبيل الحب قبل الزواج لوقاية الأمة في أولها؛ ولهذا يكثر الضعف العصبي في هذه المدنية الأوروبية وينتشر بها الفساد، فلا يأتي جيل إلا وهو أشد ميلًا إلى الفساد من الجيل الذي أعقبه.
ولم يكد ينتهي الأب إلى حيث انتهى الرأي به، حتى أسرع إلى "الباب المغلق" يهيئ للزفاف ويتعجل لابنه المطيع نكبة ستجيء في احتفال عظيم.
قال الشاب: وجُن جنوني؛ وقد كان أبي من احترامي بالموضع الذي لا يلقى منه، فلجأت إلى عمي أستدفع به النكبة، وأتأيد بمكانه عند أبي؛ وبثثته حزني وأفضيت إليه بشأني، وقلت له فيما قلت: افعلوا كل شيء إلا شيئًا ينتهي بي إلى تلك الفتاة، أو ينتهي بها إلي؛ وما أنكر أنها من ذوات القربى، وأن في احتمالي إياها واجبًا ورجولة، وفي ستري لها ثوابًا ومروءة، وخاصة في هذا الزمن الكاسد الذي بلغت فيه العذارى سن الجدات. ولكن القلب العاشق كافر بالواجب والرجولة، والثواب والمروءة، وبالأم والأب؛ فهو يملك النعمة ويريد أن يملك التنعم بها؛ وكل من اعترضه دونها كان عنده كاللص.
قال: قبح الله حبًّا يجعل أباك في قلبك لصًّا أو كاللص.
قلت: ولكني حر أختار من أشاء لنفسي.
قال: إن كنت حرًّا كما تزعم، فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها؟ ألا تكون حرًّا إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟
قلت: ولكني متعلم، فلا أريد الزواج إلا بمن ...
فقطع علي وقال: ليتك لم تتعلم، فلو كنت نجارًا أو حدادًا أو حُوذيًّا، لأدركت بطبيعة الحياة أن الذين يتخضعون للحب وللمرأة هذا الخضوع، هم