لا فن علم الناس على الوجه الذي أفضت به الحوادث مما بين الحياة والموت.
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغبر ثلاث عشرة سنة يدعو الله من قبل أن يهاجر إلى المدينة، فلم يكن في الإسلام أول بدأته إلى رجل وامرأة وغلام: أما الرجل فهو هو صلى الله عليه وسلم، وأما المرأة فزوجه خديجة، وأما الغلام فعلي ابن عمه أبي طالب.
ثم كان أول النمو في الإسلام بحر وعبد: أما الحر فأبو بكر، وأما العبد فبلال، ثم اتسق النمو قليلا قليلا ببطء الهموم في سيرها، وصبر الحر في تجلده؛ وكأن التاريخ واقف لا يتزحزح، ضيق لا يتسع، جامد لا ينمو؛ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أخو الشمس, يطلع كلاهما وحده كل يوم. حتى إذا كانت الهجرة من بعد، فانتقل الرسول إلى المدينة, بدأت الدنيا تتقلقل، كأنما مر بقدمه على مركزها فحركها؛ وكانت خطواته في هجرته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ؛ وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين المشرق والمغرب.
لقد كان في مكة يعرض الإسلام على العرب كما يعرض الذهب على المتوحشين, يرونه بريقا وشعاعًا ثم لا قيمة له، وما بهم حاجة إليه، وهو حاجة بني آدم إلا المتوحشين, وكانوا في المحادة والمخالفة الحمقاء، والبلوغ بدعوته مبلغ الأوهام والأساطير, كما يكون المريض بذات صدره مع الذي يدعوه في ليلة قارة إلى مداواة جسمه بأشعة الكواكب؛ وكانت مكة هذه صخرًا جغرافيا يتحطم ولا يلين، وكأن الشيطان نفسه وضع هذا الصخر في مجرى الزمن ليصد به التاريخ الإسلامي عن الدنيا وأهلها.
وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب وأهين، ورجف به الوادي يخطو فيه على زلازل تتقلب، ونابذه قومه وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه، وانصفق عنه عامة الناس وتركوه إلا من حفظ الله منهم؛ فأصيب كبيرا باليتم من قومه، كما أصيب صغيرًا باليتم من أبويه.
وكان لا يسمع بقادمه من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض نفسه عليه؛ ومع ذلك بقيت الدعوة تلوح وتختفي كما يشق البرق منسحابة على السماء, ليس إلا أن يرى ثم لا شيء بعد أن يرى!