للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا تاريخ ما قبل الهجرة في جملة معناه، غير أني لم أقرأه تاريخا، بل قرأت فيه فصلا رائعا من حكمة إلهية، وضعه الله كالمقدمة لتاريخ الإسلام في الأرض؛ مقدمة من الحوادث والأيام تحيا وتمر في نسق الرواية الإلهية المنطوية على رموزها وأسرارها، وتظهر فيها رحمة الله تعمل بقسوة، وحكمة الله تتجلى في غموض؛ فلو أنت حققت النظر لرأيت تاريخ الإسلام يتأله في هذه الحقبة، بحيث لا تقرؤه النفس المؤمنة إلا خاشعة كأنها تصلي، ولا تتدبره إلا خاضعة كأنها تتعبد.

بدأ الإسلام في رجل وامرأة وغلام، ثم زاد حرا وعبدا؛ أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها، مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، ومصنوعة في السياسة والاجتماع؛ فها هنا مطلع القصيدة، وأول الرمز في شعر التاريخ.

ولبث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة لا يبغيه قومه إلا شرا، على أنه دائب يطلب ثم لا يجد، يعرض ثم لا يقبل منه، ويخفق ثم لا يعتريه اليأس، ويجهد ثم لا يتخونه الملل، ويستمر ماضيا لا يتحرف، ومعتزما لا يتحول؛ أليست هذه هي أسمى معاني التربية الإنسانية أظهرها الله كلها في نبيه، فعمل بها وثبت عليها، وكانت ثلاث عشرة سنة في هذا المعنى كعمر طفل ولد ونشأ وأحكم تهذيبه بالحوادث، حتى تسلمته الرجولة الكاملة بمعانيها من الطفولة الكاملة بوسائلها؟

أفليس هذا فصلا فلسفيا دقيقا يعلم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم, غناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضع النافع قبل المنتفع، والمصلح قبل المقلد؛ وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع؟

ثم أليست تلك العوامل الأخلاقية هي هي التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليعب منها تياره؛ فتدفعه في مجراه بين الأمم، وتجعل من أخص الخصائص الإسلامية في هذه الدنيا, الثبات على الخطوة المتقدمة وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق؛ والتبرؤ من الأثرة وإن شحت عليها النفس، واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومة الباطل وإن ساد وغلب، وحمل الناس على محض الخير وإن ردوا بالشر، والعمل للعمل وإن لم يأت بشيء، والواجب للواجب وإن لم يكن فيه كبير فائدة، وبقاء الرجل رجلا وإن حطمه كل ما حوله؟

ثم هي هي البرهانات القائمة للدهر قيام المنارة في الساحل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تثبت ببرهان الفلسفة وعلوم النفس أنه روح وغاياتها المحتومة بالقدر،

<<  <  ج: ص:  >  >>