لا جسم ووسائله المتغلبة بالطبيعة؛ ولو كان رجلا ابتعثته نفسه، لتمحل الحيل لسياسته، ولأحدث طمعا من كل مطمع، ولركد مع الحوادث وهب، ولما استمر طوال هذه المدة لا يتجه وهو فرد إلا اتجاه الإنسانية كلها كأنما هو هي.
ولو هو كان رجل الملك أو رجل السياسة، لاستقام والتوى، ولأدرك ما يبتغي في سنوات قليلة، ولأوجد الحوادث يتعلق عليها، ولما أفلت ما كان موجودًا منه يتعلق به، ولما انتزع نفسه من محله في قومه وكان واسطة فيهم، ولا ترك عوامل الزمن تبعده وهي كانت تدنيه.
قالوا: إن عمه أبا طالب بعث إليه حين كلمته قريش فقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء١، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال:"يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". ثم استعبر صلى الله عليه وسلم فبكى.
يا دموع النبوة! لقد أثبت أن النفس العظيمة لن تتعزى عن شيء منها بشيء من غيرها كائنا ما كان، لا من ذهب الأرض وفضتها، ولا من ذهب السماء وفضتها إذا وضعت الشمس في يد والقمر في الأخرى.
وكل حوادث المدة قبل الهجرة على طولها لست إلا دليل ذلك الزمن على أنه زمن نبي، لا زمن ملك أو سياسي أو زعيم؛ ودليل الحقيقة على أن هذا اليقين الثابت ليس يقين الإنسان الاجتماعي من جهة قوته، بل يقين الإنسان الإلهي من جهة قلبه؛ ودليل الحكمة على أن هذا الدين ليس من العقائد الموضوعة التي تنشرها عدوى النفس للنفس؛ فها هو ذا لا يبلغ أهله في ثلاث عشرة سنة أكثر مما تبلغ أسرة تتوالد في هذه الحقبة؛ ودليل الإنسانية على أنه وحي الله بإيجاد الإخاء العالمي والوحدة الإنسانية. أفلم يكن خروجه عن موطنه هو تحققه في العالم؟
ثلاث عشرة سنة, كانت ثلاثة عشر دليلًا تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رجل ملك، ولا سياسة، ولا زعامة؛ ولو كان واحدا من هؤلاء لأدرك في قليل؛ وليس مبتدع شريعة من نفسه، وإلا لما غبر في قومه وكأنه لم يجدهم وهم حوله؛ وليس
١ أي نشأ له رأي جديد فيه، وهذا كما يقولون: رجع عن رأيه.