صاحب فكرة تعمل أساليب النفس في انتشارها؛ ولو كان لحملهم على محضها وممزوجها؛ وليس رجلا متعلقا بالمصادفات الاجتماعية، ولو هو كان لجعل إيمان يوم كفر يوم؛ وليس مصلح عشيرة يهذب منها على قدر ما تقبل منه سياسة ومخادعة، ولا رجل وطنه تكون غايته أن يشمخ في أرضه شموخ جبل فيها، دون أن يحاول ما بلغ إليه من إطلاله على الدنيا إطلال السماء على الأرض، ولا رجل حاضره إذا كان واثقا دائما أن معه الغد وآتيه، وإن أدبر عنه اليوم وذاهبه؛ ولا رجل طبيعته البشرية يلتمس لها ما يلتمس الجائع لبطنه، ولا رجل شخصيته يستهوي بها ويسحر، ولا رجل بطشه يغلب به ويتسلط، ولا رجل الأرض في الأرض، ولكن رجل السماء في الأرض.
هذه هي حكمة الله في تدبيره لنبيه قبل الهجرة, قبض عنه أطراف الزمن، وحصره من ثلاث عشرة سنة في مثل سنة واحدة، ولا تصدر به الأمور مصادرها كي تثبت أنها لا تصدر به، ولا تستحق به الحقيقة لتدل على أنها ليست من قوته وعمله.
وكان صلى الله عليه وسلم على ذلك -وهو في حدود نفسه وضيق مكانه- يتسع في الزمن من حيث لا يرى ذلك أحد ولا يعلمه، وكأنما كانت شمس اليوم الذي سينتصر فيهن -قبل أن تشرق على الدنيا بثلاث عشرة سنة -مشرقة في قلبه صلى الله عليه وسلم.
والفصل من السنة لا يقدمه الناس ولا يؤخرونه، لأنه من سير الكون كله؛ والسحابة لا يشعلون برقها بالمصابيح، ومع النبي من مثل ذلك برهان الله على رسالته، إلى أن نزل قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}[البقرة: ١٩٣] فحل الفصل، وانطلقت الصاعقة، وكانت الهجرة.
تلك هي المقدمة الإلهية للتاريخ، وكان طبيعيا أن يطرد التاريخ بعدها، حتى قال الرشيد للسحابة وقد مرت به: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك!