الاستقرار في أرضه، إلى الأيام المتحركة به في هجرته، ثم لينتهي بذلك إلى غاية قوميته الصغيرة المحدودة، فيتصل من ذلك بأول عالميته الكبرى.
وأراد الله -تعالى- أن يبدأ هذا الجليل العظيم من أسمى خلال الجلال والعظمة، ليكون أول أمره شهادة بكماله، فكانت الحسنة فيه بشهادة السيئة من قومه، فحلمه بشهادة رعونتهم، وأناته بدليل طيشهم، وحكمته ببرهان سفاهتهم؛ وبذلك ظهر الروحاني روحانيا في المادة.
قالوا: فنالت منه قريش، ووصلوا من أذاه إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياة عمه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه، كأنما يعلمونه أنه أهون عليهم من أن يكون حرا، فضلا عن أن يكون عزيزًا، فضلا عن أن يكون نبيا؛ قالوا: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي!
كانت تبكي إذ لا تعلم أن هذا التراب على رأس النبي العظيم هو شذوذ الحياة الأرضية الدنيئة, في مقابلة إنسانها الشاذ المنفرد، هذه القبضة من التراب الأرضي قبضة سفيه، تحاول رد الممالك الإسلامية العظيمة أن تنشأ نشأتها وتعمل عملها في التاريخ، فهي في مقدارها وسخافتها ومحاولتها، كعقل قريش حينئذ في مقداره وسخافته ومحاولته.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقال لبنته:"يا بنية لا تبكي، فإن الله مانع أباك". حسبت ذلك هوانا وضيعة، فأعلمها أن قبضة من التراب لا تطمر النجم، وأن هذه الحثوة الترابية لا تسمى معركة أثارتها الخيل فجاءت بنتيجة، وأن ساعة من الحزن في يوم، لا يحكم بها على الزمن كله، وأن هذه النزوة التي تحركت الآن هي حمق الغباوة: قوتها نهايتها.
"يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك". أي ليس للنبي كبرياء ينالها الناس أو يغضون عنها فيأتي الدمع مترجما عن المعنى الإنساني الناقص مثبتا أنه ناقص، إنما هي النبوةك قانونها غير ما اعتادت النفس من أفراح وأحزان، وهي النبوة: تجعل المختار لها غير محدود بجسده الضعيف، بل حدوده الحقائق التي فيها قوتها، فهو في منعة الواقع الذي لا بد أن يقع، فلو أمكن أن يحذف يوم من الزمن أو يؤخر عن وقته، أمكن أن يؤخر النبي أو يحذف.
"يا بنية لا تبكي إن الله مانع أباك" لا -والله- ما يقول هذه الكلمة إلا نبي