للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسع التاريخ في نفسه الكبيرة قبل أن يوجد هذا التاريخ في الدنيا، فكلمته هي الإيمان والثقة إذ يتكلم عن موجود.

تراب ينثره سفيه على رأس النبي! ويحك يا حقارة المادة؛ إن ارتفاعك لعنة، إن ارتفاعك لعنة.

قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه، فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتهم وأشرافهم، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته والقيام معه في الإسلام على من خالفه من قومه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط١ لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من السفهاء.

فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم في مجلسه قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك".

ألا ما أكمل هذه الإنسانية التي تثبت أن قوة الخلق هي درجة أرفع من الخلق نفسه, فهذا فن الصبر لا الصبر فقط، وفن الحلم ولا الحلم وحده.

قوة الخلق هي التي تجعل الرجل العظيم ثابتا في مركز تاريخه لا متقلقلا في تواريخ الناس، محدودا بعظائم شخصيته الخالدة لا بمصالح شخصه الفاني، ناظرا في الحياة إلى الوضع الثابت للحقيقة لا إلى الوضع المتغير للمنفعة.

وما كان أولئك الأشراف وسفهاؤهم وعبيدهم إلا معاني الظلم، والشر،


١ الحائط: البستان، وجمعه حوائط.

<<  <  ج: ص:  >  >>