والحكمة هي الإشارة إلى أن القصة قصة "النجم" الإنساني العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبة أن آيات "المعراج" لم تجئ إلا في سورة: "والنجم".
وعلى تأويل أن ذكر "الليل" إشارة إلى قصة النجم، تكون الآية برهان نفسها، وتكون في نسقها قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية؛ فإذا قيل: إن نجما دار في السماء، أو قطع ما تقطعه النجوم من المسافات التي تعجز الحساب، فهل في ذلك من عجيب؟ وهل فيه شك أو نظر أو تردد؟ وهل هو إلا من بعض ما يسبح الله بذكره؟ وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التي نراها اتصال الوجود بعضه ببعض؟
وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالى:{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}[الإسراء: ١] . مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، ويخيل إليك أن ليس وراءها شيء، ووراءها السر الأكبر؛ فإنها بهذه العبارة نص على إشراف النبي صلى الله عليه وسلم فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه؛ بخلاف ما لو كانت العبارة:"ليرى من آياتنا" فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها، فيضطرب الكلام، ويتطرق إليه الاعتراض ولا تكون ثم معجزة.
وتحويل فعل "الرؤية" من صيغة إلى صيغة كما رأيت، هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائي من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزة أخرى يسجد لها العقل؛ فتبارك الله منزل هذا الكلام!
وإذا كان صلى الله عليه وسلم نجمًا إنسانيًا في نوره، فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته على مادته؛ وإذا غلبت روحانيته كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالتها في الأخرى؛ فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك. فقل الآن: أيعترض على الهواء إذا ارتفع بأنه لم يترفع في طيارة؟
ومن ثم كان الإنسان إذا سما درجة واحدة في ثبات قواه الروحية، سما بها درجات فوق الدنيا وما فيها، وسخرت له المعاني التي تسخر غيره من الناس، ونشأت له نواميس أخلاقية غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه؛ فالنار مثلا إذا هي تضرمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.