للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فترجع على تناقضها واختلافها متعاونة يؤازر بعضها بعضا، وكان قانونها الطبيعي أن تتجاذب وتتساقط وتفسر الواحدة منها عمل الأخرى, فيجيء بها الشيء وضده معا: كالصدق والكذب، والطمع والقناعة، والشهوات الثائرة والخمود الساكن، إلى آخر ما تعد من هذه الغرائز؛ ولكنها في استعشار الخطر تكون كالأشباه لا كالأضداد، فيشد بعضها بعضا، ويتم النقيض منها نقيضه، وتجري كلها في قانون واحد: هو الدفاع بأجزائها عن مجموعها؛ فترى النازع منها وإنه لمستقر في أشد من القيد، وكأن فيه غير طبيعته.

وهل ينبئك مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم إلا أنه يعيش معيشة القلب إذا اختلف ما حوله وفجأته بغتات الوجود فتجاوز أن يكون منبعا للحياة إلى أن يكون حافظا للحياة في منبعها؟

وتلك الحالة -كما مر بك- تجعل وجود الإنسان هو وجود إرادته وعقله، لا وجود شهواته وغرائزه؛ وكذلك عاش نبينا صلى الله عليه وسلم فهو مدة حياته في وجود إرادته لا غيرها، حتى ليس عليه سبيل لغميزة أو لائمة، كأنه خلق تشده نية مستيقظة قد نبهها ما ينبه النفس من الغرر والخطر, ولعل هذا الشعور في نفسه صلى الله عليه وسلم هو التفسير لقوله: "نية المؤمن خير من عمله". إلى أحاديث كثيرة مما يجري في معنى هذه الكلمة الجامعة؛ يريد بها: أن نية المؤمن لا تنطوي إلا على الخير الكامل، فهو -ما دامت نيته على صلاحها وسره على إخلاصه- لا يعد اليسير من الشر يسيرا، ولا يرى الكثير من الخير كثيرًا؛ فالأصل القائم في تلك النية المؤمنة ألا يبدأ الشر كي لا يوجد، وألا ينتهي الخير كي لا يفنى؛ فالمؤمن من ذلك على الخير والكمال أبدًا، في حين أن عمله بطبيعته الإنسانية يتناول الخير والشر جميعا، ثم لا يكون إلا عملا إنسانيا على نقص واضطراب والتواء.

وقد لا يستطيع المؤمن أن يأتي الخير في بعض أحواله، ولكنه يستطيع دائما أن ينويه ويرغب فيه ويعزم عليه, ليحقق ضميره في كل ما يهم به؛ ويحصر أفكاره في قانون نيته المؤمنة. وهذا هو الأساس في علم الأخلاق، لا أساس من دونه.

والنية من بعد هي حارس العمل؛ فكل إنسان يستطيع أن يذعن وأن يأبى، ومن ثم تكون هذه النية ردا ومدافعة من ناحية, واستجابة ومطاوعة من الناحية الأخرى؛ فهي على الحقيقة متى صلحت كانت استقلالا تاما للإرادة، وكانت مع ذلك ضبطا لهذه الإرادة على حال واحدة هي التي ينتظم بها قانون المبدأ السامي.

<<  <  ج: ص:  >  >>