للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إنه لا ضابط لصحة العمل واستقامته إلا النية الصحيحة المستقيمة؛ فالتزوير والتلبيس كلاهما سهل ميسور في الأعمال، ولكنهما مستحيلان في النية إذا خلصت.

وهي كذلك ضابط للفضائل توجه القلوب على اختلافها وتفاوتها اتجاها واحدًا لا يختلف؛ فيكون طريق ما بين الإنسان والإنسان, من ناحية الطريق ما بين الإنسان وبين الله.

وأشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية؛ يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلب الحيوانية على الروحانية، فإذا كانت النية مستيقظة كفته وأماتت أكثر نزعاته، ووضعت لكل حاجة حدا ونهاية؛ وبذلك تجرع النية إلى أن تكون قوة في النفس يخرج بها الإنسان عن كثير مما يحده من جسمه، ليخرج بذلك عن كثير مما يحده من معاني الأرض.

وهي بعد هذا كله تحمل الإنسان أن ينظر إلى واجبه كأنه رقيب حي في قلبه, لا يرائيه ولا يجامله, ولا يخدع من تأويل, ولا يغر بفلسفة ولا تزيين، ولا يسكته ما تسول النفس, ولا يزال دائما يقول للإنسان في قلبه: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك.

وجملة القول في معاني النية أنها قوة تجعل باطن الجسم متساوقا مع ظاهره، فتتعاون الغرائز المختلفة في النفس تعاونا سهلا طبيعيا مطردا، كما تتعاون أعضاء الجسم على اختلافها في اطراد وسهولة وطبيعة.

وكل صفات النبي صلى الله عليه وسلم -مما ذكرناه وما لم نذكره- متى اعتبرت بذلك الأصل الذي بيناه انتظمها جميعا، فجاء بعضها تمامًا على بعض في نسق رياضي عجيب، وظهرت حكمة كل منهما واضحة مكشوفة، ورأيتها في مجموعها تصف لك عمرا هندسيا دقيقا قد بلغ الغاية من الكمال والروعة والدقة، لا يعد جزء منه جزءًا، بل كله أجزاؤه، وأجزاؤه كله؛ كالوضع الهندسي: إما أن يكون بكله، وإما ألا تكون فيه الهندسة كلها.

وليس مجموع تلك الصفات في معناه إلا صنعة الإنسان صنعة جديدة تخرجه موجودًا من ذات نفسه، وتكسرت القالب الأرضي الذي صب فيه وتفرغه في مثل قالب الكون، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي

<<  <  ج: ص:  >  >>