جسمه، فلا تخضعه المادة، ولا يؤتى من سوء نظره لنفسه, ولا تغره الدنيا، ولا يمسكه الزمان؛ إذ كانت هذه هي صفات المستعبد بأهوائه لا الحر فيها، والخاضع بنفسه لا المستقبل بها، والمقبور في إنسانيته لا الحي فوق إنسانيته، ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله، ويتصل بكل شيء اتصالا مبتورًا ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه.
ومن المقابلة العجيبة أن يكون في الإنسان الاجتماعي حيوان، تقابله الحكمة في الحيوان الأليف بإنسان, وحكمها واحد ومنطقهما لا يختلف. فلو أنك سألت حيوان الأعصاب عن صاحبه الإنسان لقال لك: هو غلتي ومزرعتي. ولو سألت كلبا عن حبه صاحبه ومبلغ هذا الحب في نفسه لما زاد في جوابه على أنه يحبه حب اللقمة والعظمة.
ومتى كان الإنسان في حكم حواسه لم تعد الأشياء عنده كما هي في نفسها بمعانيها الطبيعية المحدودة، وانقلبت كما هي في وهمه بمعان متفاوتة مضطربة، فلا يشعر المرء بائتلاف الوجود وتعاونه، ولكن باختلافه وتناقضه، فمن ثم لا تكون أسباب اللذة إلا من أسباب الإثم، ويدخل في كل حب بغض، وفي كل رغبة طمع، وفي كل خير شر، وفي كل صريح خبيء، وهلم جرا، إذ لا بد من هذا كله متى غلب الفاني على الباقي، ولا بد من كل هذا في تمثيل رواية الحواس الخادعة التي أساسها التغير والتقلب، حتى لكأن النفس غنما تعيش بها في ظاهر من الحياة لا في الحياة نفسها.
وهذا الخداع جاعل كل شيء من أشياء النفس لا يبدأ إلا لينتهي، ثم لا ينتهي إلا ليبدأ؛ فما تزال هذه النفس طامعة فيما لا تناله، ولا يزال من ذلك مصدر لآلامها الحسية؛ ثم إذا هي نالت منالتها سئمت، فلا يزال من ذلك مصدر آخر لآلامها المعنوية، ولن يجيء الصحيح من غير الصحيح، فالكون كله ليس إلا كذبا في النفس الكاذبة بحواسها.
ولذا كان أخص أوصافه صلى الله عليه وسلم راجعا إلى خروجه من سلطان نفسه، فلا يغضب لها، ولا يطلقها من الدنيا فيما تذمه أو تمدحه، ولا يحب فيها، ولا يبغض من أجلها، ولا يهاونها، ولا يستلين لها في مأكل وملبس، ولا يأخذها إلا من ناحية الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية؛ فأفراحها أحزانها، وآمالها أشواقها، وأملاكها