الأشياء له مظهر المادة وخداعها عن الحقيقة؛ وذلك الأول هو نفسه سر من الأسرار له روعة السر وكشفه عن الحقيقة، ولهذا كان في حياة الأنبياء والحكماء ما لا يطبقه الناس ولا يضبطونه إذا تكلفوه، بل ينخرق عليهم فيكون منه العجز والغلط، ويحدث من الغلط الزلل.
ونظرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود نظرة شاملة مدركة لحقيقة اللانهاية، فيرى بداية كل شيء مادي هي نهايته في التو واللحظة، فلا وجود له إلا عارضا مارا، فهو في اعتباره موجود غير موجود، مبتدئ منته معا؛ وبذلك تبطل عنده الأشياء المادية وتأثيرها، فلا تتصل بنفسه العالية إلا من أضعف جهاتها، ويجد لها الناس في حياتهم الشجرة والفرع والثمرة، وما لها عنده هو جذر ولا فرع؛ وبهذا لم يفتنه شيء ولم يتعلق به شيء.
وكانت الدنيا تطول الناس وتتقاصر عنه، وكانت منقطعة النماء وهو ذاهب في نموه الروحي، وكأنما هو صورة أخرى من آدم "عليه السلام"؛ فكلاهما لمس بنفسه الحياة جديدة خالية مما جمع فيها الزمن وأهله من طمع وشره، وجاء آدم ليعطي الأرض ناسها من صلبه، وجاء محمد ليعطي الناس قوانينهم في فضائله؛ فآدم بشخصه هو دنيا بعثت لتتسع، ومحمد بشخصه هو دنيا بعثت لتنتظم.
وماذا يفهم من الفلسفة الأخلاقية النبوية العظيمة؟ يفهم منها أن الشهوات خلقت مع الإنسان تتحكم فيه، لينقلب بها إنسانًا يتحكم فيها؛ وأن الإنسان الصحيح الذي لم تزوره الدنيا يجب أن يكون ذا روح يمتد فيفيض عن غايات جسمه إلى ما هو أعلى فأعلى حتى يصبح في حكم النور وانطلاقه وحريته، ولا ينكمش فيحصره جسمه في غاياته وضروراته فيرتد إلى ما هو أسفل أسفل حتى يعود في حكم التراب وأسره وعبوديته. فالفقر وما إليه، والزهد وما هو بسبيل منه، والانصراف عن الشهوات والرذائل كل ذلك إن هو إلا تراجع النفس العالية إلى ذاتها النورانية حالا بعد حال، وشيئا بعد شيء، لتضيء على المادة فتكشف حقائقها الصريحة فلا تباليها ولا تقيم لها وزنًا. فبينما الناس يرون الأموال والشهوات مادة حياة وعمل وشعور، تراها هي مادة بحث ومعرفة واعتبار ليس غير؛ وبهذا تكون النفس العظيمة في الدنيا كأستاذ المعمل, تدخل المادة إلى معمله وهي مادة وفكرة، وتخرج منه وهي حقيقة ومعرفة، وعلى أي أحوالها فهي إنما تحس في ذلك المعمل بأصابع علمية دقيقة ليس فيها الجمع ولا الحرص، ولكن فيها الذهن والفكر؛ وليس لها طبيعة الرغبة والغفلة، ولكن طبيعة الانتباه