لتحيا فيه، وتجعل له عمرا ذهنيا يكون مصرفا على حكمها، فيكون تاريخه ووصفه هو وصف هذه الفكرة وتاريخها.
وما كان محمد صلى الله عليه وسلم إلا عمرا ذهنيا محضا، تمر فيه المعاني الإلهية لتظهر للناس إلهية مفسرة، وكل حياته صلى الله عليه وسلم دروس مفننة مختلفة المعاني، ولكنها في جملتها تخاطب الإنسان على الدهر بهذه الجملة: أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك؛ أي إذا كانت الحياة في الحقيقة فلا تكن أنت في الكذب، وإذا كانت الحياة في الرجولة البصيرة فلا تكن أنت في الطفولة النزقة، فإن الرجل يعرف ويدرك، فهو بذلك وراء الحقيقي؛ ولكن الطفل يجهل ولا يعرف الدنيا إلا بعينه، فهو وراء الوهم، ومن ثم طيشه ونزقه، وإيثاره كل عاجل وإن قل، وعمله أن تكون حياته النفسية الضئيلة في مثل توثب أعضاء جسمه, حتى كأنه يلعب بظاهره وباطنه معا.
أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك؛ أي الحياة في ذاتك الداخلية وقانون كمالها، فإذا استطعت أن تخرج للأرض معنى سماويا من ذاتك فهذا هو الجديد دائما في الإنسانية، وأنت بذلك عائش في القريب القريب من الروح، وأنت به شيء إلهي؛ وإذا لم تستطع وعشت في دمك وأعصابك فهذا هو القديم دائما في الحيوانية، وأنت بذلك عائش في البعيد البعيد من النفس, وأنت به شيء أرضى كالحجر والتراب.
هنا: أي في الإرادة التي فيك وحدك. ولا هناك: أي في الخيال الذي هو في كل شيء، وهنا، في أخلاقك وفضائلك التي لا تدفعك إلى طريق من طرق الحياة إلا إذا كان هو بعينه طريقا من طرق الهداية والحكمة؛ وليس هناك، في أموالك ومعايشك التي تجعلك كاللص مندفعا إلى كل طريق متى كان هو بعينه طريقا إلى نهبة أو سرقة. هنا، في الروح، إذ تشعر الروح أنها موجودة، ثم تعمل لتثبت أنها شاعرة بوجودها، ماضية إلى مصيرها، منتهية بجسدها إلى الموت الإنساني على سنة النفس الخالدة، وليس هناك في الحس، إذ يتعلق الحس بما يتقلب على الجسم، فهو مهتاج لشعوره بوشك فنائه فلا يحدث إلا الألم إن نال أو لم ينل، وهو منته بجسمه إلى الموت الحيواني بين آكل ومأكول على سنة الطبيعة الفانية.
أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك.
إن الحكيم الذي ينظر إلى ما وراء الأشياء فيتعرف أسرارها، لا تكون له حياة الذي يتعلق بظاهرها ولا أخلاقه ولا نظرته؛ هذا الأخير هو في نفسه شيء من