للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالحبة من السنبلة بكل خير على كل حال، إنها لتنزع وما بها أنها نزعت، ولكنها أدت ما تؤدي، وانقطعت من قانون لتتصل بقانون غيره، وما اغتنت ولا افتقرت، ولا أكثرت ولا أخفت بل حققت موضعها، فإنها ما نبتت لتبقى، وما نمت إلا لينقطع نماؤها، وكذلك المؤمن الصحيح الإيمان الصادق النظر في الحياة, هو أبدًا في قانون آخرته، فهو أبدًا في عمل ضميره.

والناس في هذه الحياة كحشد عظيم يتدفق من مضيق بين جبلين ينفذ إلى الفضاء؛ فإذا هم أدركوا جميعا أنهم مفضون إلى هذه النهاية مروا آمنين وكان في يقينهم السلامة، وفي صبرهم الوقاية، وفي نظامهم التوفيق، وفي تعاونهم الحياة؛ فهم بكل خير على كل حال، ما دام هذا قانون جميعهم؛ فأيما رجل شذ منهم فاضطرب فطاش، هلك وأهلك من حوله، ومن عكس منهم موضعه ونكص على عقبيه، أهلك من حوله وهلك، والموت أشقى الموت هنا في هذا المضيق بين الجبلين, اعتبار الحاضر حاضرًا فقط، والضجر منه، وجعل كل إنسان نفسه غاية، والحياة أهنأ الحياة, اعتبار الحاضر بما رواءه، والصبر على شدته، وجعل الإنسان نفسه وسيلة.

فذلك معنى خبز الشعير، والقلة والضيق, ورهن الدرع عند يهودي من سيد الخلق وأكملهم، ومن لو شاء لمشى على أرض من الذهب، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم الإنسانية أن الرجل العظيم النفس لا يكون في الحياة إلا ضيفا نازلًا على نفسه.

ومن معاني ذلك الفقر العظيم أن خبز الشعير هو رمز من رموز الحياة على التحلل من خلق الأثرة، والبراءة من هوى الترف؛ ورهن الدرع رمز آخر على التخلص من الكبرياء والطمع؛ والعسرة رمز ثالث على مجاهدة الملل الحي الذي يفسد الحياة كما يفسد بعض النبات النبات. ومجموع هذه الرموز رمز بحاله على وجوب الإيقاظ النفسي للأمة العزيزة التي تقود أنفسها بمقاساة الشدائد ومجاهدة الطباع، لتكون في كل فرد مادة الجيش, وليصلح هذا الجيش قائدًا للإنسانية.

على أنه صلى الله عليه وسلم حث على طلب اليسار، والتغلل من الأعمال الشريفة بالغلة والمال، فقال: "إنك إن تدع عيالك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". ورأى عابدًا قد انقطع للعبادة حتى أكلت نفسه جسمه، ووصفوا له من زهده وعبادته، فقال: صلى الله عليه وسلم: "من يعوله؟ " قالوا: كلنا نعوله. فقال: "كلكم خير

<<  <  ج: ص:  >  >>