للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا بد من الضبط في هذه وهذه، حتى لا يكون وضع إلا وراءه تقدير، ولا تقدير إلا معه حكمة، ولا حكمة إلا فيها مصلحة؛ وحتى لا تعلو الحياة ولا تنزل إلا بمثل ما ترى من كفتي ميزان شدتا في علاقة تجمعهما وتحركهما معا، فهي بذاتها هي التي تنزل بالنازل لتدل عليه، وتشيل بالعالي لتبين عنه؛ فالإسلام في المدنية وهو مدنية هذه المدنية.

إنها لن تتغير مادة العظم واللحم والدم في الإنسان فهي ثابتة مقدرة عليه، ولن تتبدل السنن الإلهية التي توجدها وتفنيها فهي مصرفة لها قاضية عليها، وبين عمل هذه المادة وعمل قانونها، فيها تكون أسرار التكوين, وفي هذه الأسرار تجد تاريخ الإنسانية كله سابحا في الدم.

هي الغرائز تعمل في الإنسانية عملها الإلهي، وهي محددة محكمة على ما يكون من تعاديها واختلاف بينها، وكأنها خلقت بمجموعها لمجموعها؛ ومن ثم يكون الخلق الصحيح في معناه قانونا إليها على قوة كقوة الكون وضبط كضبطه.

وبهذه القوة وهذا الضبط يستطيع الخلق أن يحول المادة التي تعارضه إذا هو اشتد وصلب، ولكنه يتحول معها إذا هو لان أو ضعف، فهو قدر إلا أنه في طاعتك، إذ هو قوة الفصل بين إنسانيتك وحيوانيتك، كما أنه قوة المزد بينهما، كما أنه قوة التعديل فيهما، وقد سوغ القدرة على هذه الأحوال جميعا، ولولا أنه بهذه المثابة لعاش الإنسان طول التاريخ قبل التاريخ، إذ لن يكون له حينئذ كون تؤرخ فضائله أو رذائله بمدح أو ذم.

فلا عبرة بمظهر الحياة في الفرد، إذ الفرد مقيد في ذات نفسه بمجموع هو للمجموع وليس له وحده, فإنك ترى الغرائز دائبة في إيجاد هذا الفرد لنوعه بسنن من أعمالها، ودائبة كذلك في إهلاكه في النوع نفسه بسنن أخرى؛ فليس قانون الفرد إلا أمرا عارضا كما ترى؛ وبهذا يمكن أن يتحول الفرد على أسباب مختلفة، ثم تبقى الأخلاق التي بينه وبين المجموع ثابتة على صورتها.

فالأخلاق على أنها في الأفراد، هي في حقيقتها حكم المجتمع على أفراده؛ فقوامها بالاعتبار الاجتماعي لا غير.

وحين يقع الفساد في المجمع عليه من آداب الناس، ويلتوي ما كان

<<  <  ج: ص:  >  >>