مستقيما، وتشتبه العالية والسافلة، وتطرح المبالاة بالضمير الاجتماعي، ويقوم وزن الحكم في اجتماعهم على القبيح والمنكر، وتجري العبرة فيما يعتبرونه بالرذائل والمحرمات، ولا يعجب الناس إلا ما يفسدهم، ويقع ذلك منهم بموقع القانون ويحل في محل العادة؛ فهناك لا مساك للخلق السليم على فرد، ولا بد من تحول الفرد في حقيقته؛ إذ كان لا يجيء أبدًا إلا متصدعا في كل مظاهره الاجتماعية، فأينما وقع من أعمال الناس جاء مكسورًا أو مثلوما، وكأنه منتقل من عالم إلى عالم ثان بغير نواميس الأول.
وما شذ من هذه القاعدة إلا الأنبياء وأفراد من الحكماء؛ فأما أولئك فهم قوة التحويل في تاريخ الإنسانية؛ لا يبعث أحدهم إلا ليهيج به الهيج في التاريخ، ويتطرق به الناس إلى سبل جديدة كأنما تطردهم إليها العواصف والزلازل والبراكين، لا شريعته ومبادئه وآدابه، وأما الحكماء الناضجون فهم دائما في هذه الإنسانية أمكنة بشرية محصنة لحفظ كنوزها وإحرازها في أنفسهم، فلهم في ذات أنفسهم عصمة ومنعة كالجبال في ذات الأرض.
الأخلاق في رأيي هي الطريقة لتنظيم الشخصية الفردة على مقتضى الواجبات العامة، فالإصلاح فيها إنما يكون من عمل هذه الواجبات، أي من ناحية المجتمع والقائمين على حكمه. وعندي أن للشعب ظاهرا وباطنًا، فباطنه هو الدين الذي يحكم الفرد، وظاهره هو القانون الذي يحكم الجميع، ولن يصلح للباطن المتصل بالغيب إلا ذلك الحكم الديني المتصل بالغيب مثله؛ ومن هنا تتبين مواضع الاختلال في المدنية الأوربية الجديدة؛ فهي في ظاهر الشعب دون باطنه، والفرد فاسد بها في ذات نفسه إذا هو تحلل من الدين، ولكنه مع ذلك يبدو صالحا منتظما في ظاهره الاجتماعي بالقوانين وبالآداب العامة التي تفرضها القوانين، فلا يبرح هازئا من الأخلاق ساخرا بها؛ لأنها غير ثابتة فيه، ثم لا تكون عنده أخلاقًا يعتد بها إلا إذا درت بها منافعه، وإلا فهي ضارة إذا كانت منها مضرة، وهي مؤلمة إذا حالت دون اللذات. ولا ينفك هذا الفرد يتحول لأنه مطلق في باطنه غي مقيد إلا بأهوائه ونزعاته، وكلمتا الفضيلة والرذيلة معدومتان في لغة الأهواء والنزعات؛ إذ الغاية المتاع واللذة والنجاح، وليكن السبب ما هو كائن.
وبهذا فلن تقوم القوانين في أوربا إذا فني المؤمنون بالأديان فيها أو كاثرهم الملحدون، وهم اليوم يبصرون بأعينهم ما فعلت عقلية الحرب العظمى في طوائف