للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منهم قد خربت أنفسهم من إيمانهم فتحولوا ذلك التحول الذي أومأنا إليه، فإذا أعصابهم بعد الحرب ما تزال محاربة مقاتلة ترمي في كل شيء بروح الدم والأشلاء والقبور والتعفن والبلى ... وانتهت الحرب بين أمم وأمم، ولكنها بدأت بين أخلاق وأخلاق.

وقديما حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوخوا الأمم؛ فأثبتوا في كل أرض هدي دينهم وقوة أخلاقهم الثابتة، وكان وراء أنفسهم في الحرب ما هو من ورائها في السلم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحول، ولا تستخفه الحياة بنزقها، ولا تتسفه المدنيات فتحمله على الطيش.

ولو كانوا هم أهل هذه الحرب الأخيرة بكل ما قذفت به الدنيا، لبقيت لهم العقلية المؤمنة القوية، لأن كل مسلم فإنما هو وعقليته في سلطان باطنه الثابت القار على حدود بينة محصلة مقسومة، تحوطها وتمسكها أعمال الإيمان التي أحكمها الإسلام أشد إحكام بفرضها على النفوس منوعة مكررة: كالصلاة والصوم والزكاة، ليمنع بها تغيرا ويحدث بها تغيرا آخر، ويجعلها كالحارسة للإرادة ما تزال تمر بها وتتعهدها بين الساعة والساعة١.

إنما الظاهر والباطن كالموج والساحل؛ فإذا جن الموج فلن يضيره ما بقي الساحل ركينا هادئًا مشدودًا بأعضاده في طبقات الأرض. أما إذا ماج الساحل ... فذلك أسلوب آخر غير أسلوب البحار والأعاصير؛ ولا جرم ألا يكون إلا خسفا بالأرض والماء وما يتصل بهما.

في الكون أصل لا يتغير ولا يتبدل، هو قانون ضبط القوة وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الحكمة. ويقابله في الإنسان قانون مثله لا بد منه لضبط معاني الإنسان وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الكمال. وكل فروض الدين الإسلامي وواجباته وآدابه، إن هي إلا حركة هذا القانون في عمله؛ فما تلك إلا طرق ثابتة لخلق الحس الأدبي، وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموس طبيعي بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكل ذلك قوة في باطنها، فتسمى الواجبات والآداب فروضا دينية؛ وما هي في الواقع إلا عناصر تكوين النفس العالية، وتكون أوامر وهي حقائق٢.


١ فصلنا هذا المعنى في كثير من مقالاتنا: كمقالة "حقيقة المسلم"، و"فلسفة الصوم" وغيرها.
٢ هذا هو الذي ضل عنه مصطفى كمال ومن شايعوه، ومن قلدوه، ومن انخدعوا فيه ولو فهمه حق الفهم لجدد تركيا وجدد العالم الإسلامي كله، ولكن الرجل غريب عن هذه المعاني قصير النظر، فما زاد على أن جدد ثوبا وقبعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>