ومن ذلك أرانا نحن الشرقيون نمتاز على الأوربيين بأننا أقرب منهم إلى قوانين الكون؛ ففي أنفسنا ضوابط قوية متينة إذا نحن أقررنا مدنيتهم فيها, وهي بطبيعتها لا تقبل إلا محاسن هذه المدنية, سبقناهم وتركنا غبار أقدامنا في وجوههم، وكنا الطبقة المصفاة التي ينشدونها في إنسانيتهم الراهنة ولا يجدونها، ونمتاز عنهم من جهة أخرى بأننا لم ننشئ هذه المدنية ولم تنشئنا، فليس حقا علينا أن نأخذ سيئاتها في حسناتها، وحماقتها في حكمتها، وتزويرها في حقيقتها؛ وأن نسيغ منها الحلوة والمرة، والناضجة والفجة؛ وإنما نحن نحصلها ونقتبسها ونرتجع منها الرجعة الحسنة؛ فلا نأخذ إلا الشيء الصالح مكان الشيء قد كان دونه عندنا وندع ما سوى ذلك؛ ثم لا نأخذ ولا ندع إلا على الأصول الضابطة المحكمة في أدياننا وآدابنا؛ ولسنا مثلهم متصلين من حاضر مدنيتهم بمثل ماضيهم، بيد أن العجب الذي ما يفرغ عجبي منه، أن الموسومين منا بالتجديد لا يحاولون أول وهلة وآخرها إلا هدم تلك الضوابط التي هي كل ما نمتاز به، والتي هي كذلك كل ما تحتاج إليه أوروبا لضبط مدنيتها، ويسمون ذلك تجديدًا، ولهو بأن يسمى حماقة وجهلا أولى وأحق.
أقول ولا أبالي: إننا ابتلينا في نهضتنا هذه بقوم من المترجمين قد احترفوا النقل من لغات أوروبا، ولا عقل إلا عقل ما ينقلونه: فصنعتهم الترجمة من حيث يدرون أو لا يدرون صنعة تقليد محض ومتابعة مستعبدة، وأصبح عقلهم -بحكم العادة والطبيعة- إذا فكر انجذب إلى ذلك الأصل لا يخرج عليه ولا يتحول عنه.
وإذا صح أن أعمالنا هي التي تعملنا -كما يقول بعض الحكماء- فهم بذلك خطر أي خطر على الشعب وقوميته وذاتيته وخصائصه، ويوشك إذا هو أطاعهم إلى كل ما يدعون إليه أن ... أن يترجموه إلى شعب آخر.
إن أوروبا ومدنيتها لا تساوي عندنا شيئا إلا بمقدار ما تحقق فينا من اتساع الذاتية بعلومها وفنونها، فإنما الذاتية وحدها هي أساس قوتنا في النزاع العالمي بكل مظاهره أيها كان؛ ولها وحدها، وباعتبار منها دون سواها، نأخذ ما نأخذه من مدنية أوروبا ونهمل ما نهمل؛ ولا يجوز أن نترك الثبت في هذا ولا أن نتسامح في دقة المحاسبة عليه.