للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته، يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعا، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه.

فقلت في نفسي: أمر أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدته وشبابه، ثم تحولت إليه وقلت: رأيتك يا بني مقبلا علينا كالمنصرف عنا؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعًا؟

قال: إليك عني يا هذا؛ فأين من الضحك وأنا على شفير القبر، وروح التراب مالئ عيني في كل ما أرى، وكأن حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميت حي؛ رجل في الدنيا ورجل في الآخرة!

قلت: فأعلمني ما بك يا بني، فلقد احتسبت ولدا لي كان في مثل سنك وشبابك ولم أرزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرقا في لداته، متوهما أن وجوههم تجمعه بملامحه؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعا وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أدرى أحدا منهم إلا كان له ولقلبي حديث! فإن رأيته حزينا مثلك تقطعت له من إشفاق ورحمة, وطالعني فتاي في مثل همه وحزنه وإنكساره؛ فيعود قلبي كالعين التي غشاها الدمع، تحمل أثر الحزن ومعناه وسره؛ فبثني ما تجد يا بني، فلعل لي سببا إلى كشف ضرك أو إسعافك بحاجتك؛ ولعلك تكون قد حزنت من أمر قريب المتناول هين المحاولة، لم يجعله عندك كبيرا أنه كبير, ولكن أنك أنت صغير.

قال الفتى: مهلا يا عم، فإن ما نزل بنا مما تنقطع عنده الحيلة ولا تنقاد فيه الوسائل، ولا علاج منه إلا بالموت يأخذنا ويأخذه.

قلت: يا بني, هذه كلمة ما أحسب أحدًا يقولها إلا من أخذ للقتل بجنايته ولم يعف أهل الدم، فهل جنيت أو جنى أبوك على أحد؟

قال: إن الأمر قريب من قريب، فإني تركت أبي الساعة مجمعًا على إزهاق نفسه، وقد أغلق عليه الدار واستوثق من الباب!

قال المسيب: فكأنما لدغتني حية بهذه الكلمة، وأكبرت أن يكون رجل مسلم يقتل نفسهن فتناهضت، ولكن الغلام أمسك بي وقال: إنه لا يزال حيا، وسيقتل نفسه متى أظلم الليل وهدأت الرجل.

قلت: الحمد لله، إن في النور عقلا، ولكن ما الذي صار به إلى ما قلت، وكيف تركته لقدره وجئت؟

قال الفتى: إنه قال لي: يا ولدي، ليس لك أب بعدي، فإن أردت

<<  <  ج: ص:  >  >>