للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللحاق بي فارجع مع الليل لنسلم أنفسنا، وإن آثرت الحياة فارجع مع الصبح لتسلمني إلى غاسلي!

قلت: أفآمن أنت ألا يكون أبوك قد أخرجك عنه لأن عينك تمسك يديه وترده عما يهم به، حتى إذا خلا وجهه منك أزهق نفسه؟

قال: لم أدعه حتى أقسم أن يحيا إلى الليل، وحتى أقسمت أن أرجع لأموت معه؛ فإن لم تمسكه يمينه أمسكه انتظاري، وقد فرغت الحياة منا فلم يبق إلا أن نفرغ منها؛ ومن كان فيما كنا في ثم انحدر إلى ما انحدرنا إليه، لم ير الناس من نفسه ضعة ولا استكانة، وإنما خرجت لأسأل هذا الإمام "الشعبي" وجها من الرأي فيمن يقتل نفسه إذا ضاقت عليه الدنيا، ونزلت به النازلات، وتعذر القوت، واشتد الضر، وتدلت به المسكنة إلى حضيضها، وألجئ إلى أحوال دقته دق الرحى لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأي واحد في معنى الدنيا, هو أنه مكذوب مزور على الدنيا.

قلت: يا بني، فإني أراك أديبا، فمن أبوك؟

قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومحق محاقه، وهو اليوم في أحلك الليالي وأشدها انطماسا؛ جهده الفقر، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل أخذ الموت امرأته فماتت هما به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كل من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبت الأم ذهبت الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها، وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على أنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندنا قتل الحياة!

قلت: يا بني، فإنك -والله- مع أدبك لحكيم، وإني لأنفس بك على الموت، فكيف ردتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردك حياة أبيك؟

قال: لو بقى أبي حيا لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين أخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكر في الموت, فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو لا يرحمه؛ إن عجز عن عدوه فالرأي قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به.

قال المسيب بن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلة يطمئن

<<  <  ج: ص:  >  >>