للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليها أن يموت مسلما إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره، فأشفقت أن أكسر نفسه إذا أنا حدثته أو أفتيته؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفتيا؛ وكان إمامنا "الشعبي" حكيما لحنا فطنا، سفر ين أمير المؤمنين "عبد الملك" وعاهل الروم، فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله. وقلت: لعل الله يحدث به أمرا. فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفه عن نفسه. وقلت له: أما تدري أنك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرروها أيضا, وأنا الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا، ليس بأحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟

يا بني: إن الزاهد يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كان فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وايم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعًا، لهو الخالي من الفضائل جميعًا.

يا بني: إن من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية؛ ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائله. وما أرك أنت وأباك إلا من المختارين، كأن في أعراقكم دم نبي يقتل أو يصلب!

قال المسيب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقت الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلمنا وسلم، ثم بدرت فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفت عليه المصائب، وتوالت النكبات، وتواترت الأسقام ... ثم اقتصصت ما قال ابنه حرفا حرفا، ثم قلت؛ وإنه الآن موشك أن يزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا؛ وقد "هداه الله إليك فجاء يسلك, أيموت مسلما من ألجئ وأكره واضطر واستضاق واختل، فتحسى سما فهلك، أو توجأ بحديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حز في يده بسكين فما رقأ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه، أو تردى من شاهق فطاح!

وأدرك الشيح معنى قولي: "هداه الله إليك" ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المرادفة على القتل وما استقصيت من وجوهه؛ فعلم أن لم أسأله الفتيا والنص، ولكني سألته الحكمة والسياسة؛ فقال: هذا -والله- رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس, وما أنا الساعة بمعزل عن همه, فنذهب نكلمه والله المستعان.

ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما

<<  <  ج: ص:  >  >>