استفز بنفسه فأزهقها، وسأتسور الحائط وأتدلى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده.
ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، وإلى الحياة وما به قوة؛ وصغر إليه نفسه أنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحا تتقعقع في جلدها، فهي تهم في لحظة أن تثب وتندلق.
وسلم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال:"بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: ١٧٧] ".
فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله؛ فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي!
ومد الشيخ عينه فرأى كوة مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودع الهواء يتكلم معنا كلامه. فقمت إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيح للرجل: أصغ إلي، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك.
أعلمت أن رجلا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حيا ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتا، فبقي لا حيا ولا ميتا ثلاثين سنة؟
قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذا الحال ثلاثين سنة؟
قال الشيح: صحيح الكلام واسأل. أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول:"جاء ما لا صبر عليه" وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مال غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟
أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنة على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظام ممدودة على سريرها؟ إنه إمامنا "عمران بن حصين الخزاعي"١ الذي أرسله عمر بن الخطاب يفقه أهل البصرة, وتولى قضاءها، وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين. ولقد دخلت عليه أنا وأخوه "العلاء"، فرأيناه مثبتا على سرير الجريد كأنما شد بالحبال وما شد إلا بانتهاك