للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه، فبكى أخوه، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة؟ قال: لا تبك، فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي. ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛ إذ كانت قوة روحه قوة في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر: "إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتنزع من بيه جنبيه وهو يحمد الله عز وجل".

ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له: "امتحني! " وكيف تراك إذا كنت بطلا من الأبطال مع قائد الجيش, أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: "امتحني وارم بي حيث شئت! " وإذا رمى بك فرجعت مثخنا بالجراح ونالك البتر والتشويه، أتراها أوصافا لمصائبك, أم ثناء على شجاعتك؟

ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانا في النفس على زلازلها وكوارثها، لم يكن إيمانا، بل هو دعوى بالفكر أو اللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع أحدث في ثيابه من الخوف. ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفرا بالله وتكذيبا لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه!

والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرضى من القلب, ثقة بوعده ورجاة لما عنده، ومن هذين يكون الاطمئنان، وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلا ثانيا مع العقل، فإذا ابتلي المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل، وصار من أمره في مثل الجنون, برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول. ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة، فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أوغيرهما فيقتل أقواهما الأضعف، ويخرج الأعز منهما الأذل.

فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى، أو تحويله عن معناه بجعل البلاء ثوابا وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرة بكل ما فيها إلى الموت؛ وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم. وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا.

<<  <  ج: ص:  >  >>