للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما الإنسان في هذا الكون؟ وما خيره وشره؟ وما سخطه ورضاه؟ إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها!

قال الشيخ: وانظر, أما تبتلى الشجرة الخضراء في بعض أوقاتها بمثل ما يبتلى به الإنسان؟ غير أن لها عقلا روحانيا مستقرا في داخلها يمسك الحياة عليها ويتربص حالا غير الحال؛ ومهما يكن من أمر ظاهرها وبلائه فالسعادة كلها في داخلها، ولها دائما ربيع على قدرها حتى في قر الشتاء.

فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن ينشئ للنفس غريزة متصرفة في كل غرائزها، تكمل شيئا وتنقص من شيء، وتوجه إلى ناحية وتصرف عن ناحية؛ وبهذه الغريزة تسمو الروح فتكون أكبر من مصائبها وأكبر من لذاتها جميعا.

وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضى بالقدر خيره وشره, وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا، فتضع في النكبات معاني شريفة تنزع منها شرها وأذاها للنفس؛ وليست المصيبة شيئا لولا تأذي النفس بها، وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل، وتغيرت طبيعتها فيعود الفقر بابا من الزهد، والمرض نوعا من الجهاد، والخيبة طريقا من الصبر، والحزن وجها من الرجاء، وهلم جرا.

والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وجدا مع الفقر بطلت عزة المال وأصبح حجرا من الحجر؛ والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغني فيه آلات التطريب كلها. وفي النفس حياة ما حولها، فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا، وإذا ضعفت أذلتها الدنيا!.

قال المسيب: ثم سكت الشيخ قليلا، وكنت أرى الرجل كأنما يغتسل بكلامه، وقد أشرق وجهه وتنضر وانقلب على روحه التي كان منصرفا عنها، فعادت مصائبه تضغط روحا لينة كما تضغط اليد على الماء، وأيقن أن النكبة كلها هي أن ينظر الإنسان إلى الحياة بعين شهواته, فينكب أول ما ينكب في صبره ويقينه.

ثم قال الشيخ: ولقد رأيت بعيني رأسي معجزة "العقل الروحاني" وكيف يصنع؛ رأيت عروة بن الزبير١ وهو شيخ كبير، عند الوليد بن عبد الملك، وقد


١ توفي سنة ٩٣ للهجرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>