وقعت في رجله الأكلة: فأشاروا عليه بقطعها لا تفسد جسده كله، فدعي له من يقطعها فلما جاء قال له: نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألما، فقال عروة: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية! قال: فنسقيك المرقد. فقال عروة: ما أحب أن أسلب عضوا من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه!
ثم دخل رجال أنكرهم عروة، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي!
قال الشيخ: فانظر أيها الضعيف الذي يريد قتل نفسه كيف صنع عروة، وكيف استقبل البلاء، وكيف صبر وكيف احتمل، إنه انصرف بحسه إلى النفس فانبسطت روحه عليه، وأخذ يكبر ويهلل ليبقى مع روحه وحدها، وخرج من دنيا ظاهره إلى دنيا باطنه، وغمرت حواسه وأعصابه بالنور الإلهي من معنى التكبير والتهليل، فقطع القاطع كعبه بالسكين وهو لا يلتفت، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار ونشرها وعروة في التكبير والتهليل، ثم جيء بالزيت مغليا في مغارف الحديد فحسم به مكان القطع، فغشي على عروة ساعة ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولم يسمع منه في كل هذه الآلام الماحقة أنة ولا آهة، ولم يقل قبلها ولا بعدها ولا بين ذلك:"جاء ما لا صبر عليه! ".
قال المسيب: وأرهف بأس الرجل الضعيف وقوي جأشه، وانبعث فيه الروح إلى عمر جديد، ونشأ له اليقين من عقله الروحاني، وعرف أن ما لا يمكن أن يدرك، يمكن أن يترك.
وجاء هذا العقل الروحاني فمر بالمنشار على اليأس الذي كان في نفسه فقطعه، فما راعنا إلا أن وثب الرجل قائما يقول: الله أكبر من الدنيا، الله أكبر من الدنيا.
ثم أكب على يد الشيخ وهو يقول: صدقت؛ "إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة التراب تتكبر، وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها! ".
ماذا يصنع الإنسان إذا غلط في مسألة من مسائل الدنيا إلا أن يتحرى الصواب، ويجتهد في الرجوع إليه، ويصبر على ما يناله في ذلك؟ وماذا يصنع الإنسان إذا غلطت في مسألة؟