للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما، فتتغير حالة النفس هونا ما؛ فالصبر كالتروح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى واحد مقفل من جوانبه "ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفه بالتراب لفا وسد عليه منافذ الهواء، وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة؛ فهو على اليقين أنها حالة ساعة طارئة من الزمن لا حالة الزمن؛ وأن الهواء الذي جاء بهذا الهم هو الذي يذهب بهذا الهم.

وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها، فالحياة كذلك هي أمر آخر غير شقائها.

قال الإمام: وفي كتاب الله آيتان تدلان على أنه كتاب الدنيا كلها، إذ وضع لهذه الدنيا مثالين: أحدهما المثال الروحي للفرد الكامل، والآخر المثال الروحي للجماعة الكاملة.

أما الآية الأولى فهي قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: ٢١] .

وأما الثانية فهي قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: ٢٩] .

ففي رجاء الله واليوم الآخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية، فتمر همومها حوله ولا تصدمه، إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأن لا سلطان لها عليه، وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت، فلا يجيء الهم قوة تستحق ضعفا، بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملا ظاهرا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة, والأسوة وحدها هي علم الحياة.

وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينا، وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية.

وفي رجاء الله واليوم الآخر يبطل أكبر أسباب الشر في الناس، وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرا لا يبعث إلا الحقد والسخط، فينظر المؤمن حينئذ إلى ما في الناس من الخبر والصلاح والإيمان والحق والفضيلة, وهذه بطبيعتها لا تبعث إلا السرور والغبطة، ومن جعلها في تفكيره أبطل أكثر الدنيا من تفكيره، وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم، كالرجل الفقير

<<  <  ج: ص:  >  >>