العالم إذا قدم على الغني العالم؛ جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه.
وفي رجاء الله واليوم الآخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يصبح منه غاديا على الحشر والحساب؛ فهو متصل بالخلود غير معني إلا بأسبابه، وبهذا تكون أمراضه وآلامه، ومصائبه ليست مكاره من الدنيا، بل هي تلك المكاره التي حفت الجنة بها؛ ولا يضره الحرمان لأنه قريب الزوال، ولا يغره المتاع لأنه قريب الزوال أيضا.
وفي رجاء الله واليوم الآخر يسود الإنسان على نفسه، ومن كان سيد نفسه كان سيد ما حولها يصرفه بحكمه، ومن كان عبد نفسه صرفه بحكمه كل ما حوله.
قال الشعبي: وأما المثال الروحي للجماعة الكاملة، فهو في وصف المؤمنين بأنهم "رحماء بينهم"؛ فهذا هذا، ما أحسبه يحتاج إلى بسط وبيان.
إن أكثر ما يضيق به الإنسان يكون من قبل من حوله ممن يعايشهم ويتصل بهم لا من قبل نفسه، فإذا قام اجتماع أمة على أنهم "رحماء بينهم" تقررت العظمة النفسية للجميع على السواء؛ ومن كانوا كذلك لم يحقروا الفقير بفقره, ولم يعظموا الغني لغناه، وإنما يحقرون ويعظمون لصفات سامية أو حقيرة. وبين هؤلاء يكون الفقير الصابر أعظم قدرا من الغني الشاكر، وإعظام الناس لفضيلة الفقير هو الذي يجعل فقره عند نفسه شيئا ذا قيمة في الإنسانية.
ومتى تصححت آراء الجماعة في هذه المعاني المؤلمة للناس بطل ألمها واستحالت معانيها، وصار لا يبلى معنى من معاني الحياة في إنسان إلا وضع إيمانه معنى جديدًا في مكانه، وتصبح الفضيلة وحدها غاية النفس في الجميع، وبذلك يصبر الفرد على مصائبه، لا بقوته وحده، ولكن بجميع القوى التي حوله. أفلا ترون أن إعجاب الناس بالشجاعة وتعظيمهم صاحبها يضع في ألم السلاح لذة يحسها لحم الشجاع البطل؟
قال المسيب بن رافع: فقام رجل من المجلس، فقال: أيها الشيخ، وإذا فسد الناس وغلظت قلوبهم، وتقطعت بينهم الأسباب، ولم يعودوا "رحماء بينهم", وشمتوا بالفقير، وتهزءوا بالمبتلى وطرحوه في ألسنتهم كما يطرح الشاعر في لسانه رجلا يهجوه لا يكف عنه -فما عسى أن يصنع المسكين حينئذ وكل شيء يدفعه إلى قتل نفسه؟