للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيتا في سقف حداد؛ فرأته يصب الحديد المصهور يجعله سلسلة حلقة في حلقة، فذهبت تحكيه وترسل من لعابها خيطا في خيط تزعمه سلسلة.

إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبدًا محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفها يستقبل بها الدنيا جديدة على نفسه بين الفترة والفترة، ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن, وأن تقام الصلاة مرارًا في اليوم، فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى.

وقال الإمام: هيه يا أبا محمد! فقال البصري وقد رأى الكراهة في وجه الإمام: لا يفزعنك أيها الشيخ؛ فإن الله -تعالى- قد يجعل ما يحبه هو فيما نكره نحن؛ وليس للأقدار لغة فتجري على ألفاظنا؛ وقد نسمي النازلة تنزل بنا خسارًا وهي ربح، أو نقول مصيبة جاءت لتبديل الحياة، ولا تكون إلا طريقة تيسرت لتبديل الفك. إنما لغة القدر في شيء هي حقيقة هذا الشيء حين تظهر الحقيقة؛ وكأين من حادثة لا تصيب امرأ في نفسه إلا لتقع بها الحرب بين هذه النفس وبين غرائزها، فتكون أعمال الطبيعة المعادية أسبابا في أعمال العقل المنتصر.

وكثير من هذا البلاء الذي يقضي على الإنسان، لا يكون إلا وسائل من القدر يرد بها الإنسان إلى عالم فكره الخاص به؛ فإن هذه الدنيا عالم واحد لكل من فيها، ولكن دائرة الفكر والنفس هي لصاحبها عالمه وحده. والسعيد من قر في عالمه هذا واستطاع أن يحكم فيه كالملك في مملكته، نافذ الأمر في صغيرتها وكبيرتها؛ والشقي من لا يزال ضائعا بين عوالم الناس، ينظر إلى هذا الغني، وإلى ذاك المجدود وإلى ذلك الموفق؛ وهو في كل هذا كالأجنبي في غير بلده وغير قومه وغير أهله، إذا كل شيء يصبح أجنبيا عن الإنسان ما دام هو أجنبيا عن نفسه.

لقد كنت ضالا عن نفسي وعالمها، فكنت في هذه الدنيا أستشعر شعور اللص، أشياؤه هي أشياء الناس جميعًا؛ واللص ينظر إلى أموال الناس بعيني شاعر متحبب كلف، وهي تنظر إليه بعيني مقاتل متربص حذر.

كنت والله إن ضقت بالناس أو وسعتهم؛ رأيت في ذلك معنى من ضيق اللص وسعته؛ هو على أي حاليه لا ينظر في أعماق نفسه إلا شخصا متواريا تحت الظلام يتسلل في خشية وحذر.

<<  <  ج: ص:  >  >>