وكنت نزقا حديد الطبع سريع البادرة؛ ومن فقد عالم نفسه وكان في مثل اللص الذي ذكرت؛ فإن هذه الطباع تكون هي أسلحته يدفع بها أو يعتدي. وما قط تمكن إنسان من نفسه وأحاط بها ونفذ فيها تصرفه؛ إلا كان راضيا عن كل شيء إذ يتصل من كل شيء بجهته السامية لا غيرها، حتى في اتصاله بأعدائه من الناس وأعدائه من الأشياء؛ فما يرى هؤلاء ولا هؤلاء إلا امتحانا لفضائله وإثباتها لها. وقد يكن عدوك في بعض الأمور عينا لك في رؤية نفسك؛ ففيه بركة هذه الحاسة ونعمتها.
ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا صلى الله عليه وسلم، وإسلام المقتدين به من أصحابه, لأدركنا سر الكمال الإنساني، وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي، ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال، المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره؛ فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه. والمؤمن كالغصن؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه، وإن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه.
ولقد نشأت في مغرس كريم، على صورة من الحياة تشبه صورة الثمرة الحلوة، اجتمع لها من طبيعة مغرسها ومرتبتها ما تتعين به من حلاوة ونكهة ومذاق، فلما عقلت وعرفت الناس بعد فجاريتهم وخالطتهم، رأيتني منهم كالتفاحة ملقاة في البصل، وكانت التفاحة حمقاء فزادت حمقا، وكانت جديدة فزادت جدة، وظنت أن الحكمة قد مسخت في الدنيا وبدلت إذ خلقت البصلة بعد أن خلقت التفاحة، وما علمت الخرقاء أن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص، وأن للجمال وجهين: أحدهما الذي اسمه القبح؛ لا يعرف هذا إلا من هذا؛ وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة، وقالت عن هذه أنها هي البصلة!
ولما رأت تفاحتي أنها عاجزة أن تجعل الشجر كله في مثل مرتبتها ومغرسها, قالت: إن الأمر أكبر من طبيعتي، وما دام سر الكون مغلقا فلا تعريف له إلا أنه سر مغلق، وليبق كل شيء في طبيعة نفسه، فعلى هذا يصلح كل شيء ولو في نفسه وحدها.
قال أبو محمد: ولكن بقيت وحشة الدنيا وجفوتها، إذا لم أكن اهتديت إلى عالمي، ولا تأكدت عقيدتي بنفسي؛ فكان كل ما حولي منبجسا في روحي بشره، وكانت الدنيا بهذا كالمتطابقة في رأيي على معنى واحد، وزادني أني كنت رجلا