الرؤيا، وأدمنت النظر فيها طويلا فإذا أنا رجل آخر غير الأول، وإذا المرأة غير تلك، وطغت عبرة الموت على شهوة الحياة فمحتها، وصح عندي من يومئذ أن لا علاج من هذا الحب إلا أن تقرن في النفس صورة امرأة ميتة إلى صورة المرأة الحية، وكلما ذكرت هذه جيء لها بتلك، فإذا استمر ذلك فإن الميتة تميتها في النفس وتميت الشهوة إليها، ما من ذلك بد، فليجربه من شك فيه.
وانفتح لي رأي عجيب، فجعلت أتأمل كيف آمن شيطاني ثم كفر بعد، على أن شيطانها هي كفر في الأول ثم آمن في الآخر؟ فوالله ما كنت إلا غبيا خامد الفطنة، إذ لم يسنح لي الصواب حتى كدت أزهق نفسي وأخسر الدنيا والآخرة؛ فإن الشيطان -لعنه الله- إنما ردني عن الفاحشة وهي ذنب واحد، ليرميني بعدها في الذنوب كلها بالموت على الكفر!
ورد إلي هذا الخاطر ما عزب من عقلي. ومن ابتلي ببلاء شديد يزلزل يقينه ثم أبصر اليقين، جاء منه شخص كأنما خلق لساعته؛ فلعنت شيطاني واستعذت بالله من مكره، وألقيت السم في التراب وغيبته فيه، وقلت لنفسي: ويحك يا نفس! إن الحياة تعمل عملا بالحي، أفترضين أن تعمل الحياة بأبطالها ورجالها ما عرفت وما علمت، ثم يكون عملها بك أنت القعود ناحية والبكاء على امرأة؟
أيتها النفس، ما الفرق بين سرقة لحم من دكان قصاب، وبين سرقة لحم امرأة من دار أبيها، أو زوجها، أو مولاها؟
أيتها النفس، إن إيمان أسلافنا معنا؛ إن الإسلام في المسلم.
قال المسيب: وهنا طاش مجاهد واستخفه الطرب، فصاح صيحة النصر: الله أكبر! وجاوبه أهل المسجد في صيحة واحدة: الله أكبر! ولم يكد يهتف بها الناس حتى ارتفعت صيحة المؤذن لصلاة المغرب. الله أكبر.