والرجال من لدن آدم وحواء إلى يومي ويومها! فكان يجذبني إليها أشد الجذب, ويدفعها عني أقوى الدفع، ثم يغريني بكل رذائلها ولا يغريها هي إلا بفضائلي، وألقى منها في دمي فكرة شهوة مجنونة متقلبة، وألقى مني في دمها فكرة حكمة رزينة مستقرة. وكنت ألقاها كل يوم وأسمع غناءها؛ فما هو بالغناء ولكنه صوت كل ما فيها لكل ما في، حتى لو التصق جسمها بجسمي وسار البدن البدن، وهمس الدم للدم، لكان هو هذا الغناء الذي تغنيه.
وأصبحت كلما استقمت لحبها تلوث علي؛ إذ لست عندها إلا الأمل في المغفرة والثواب، وكأنما مسخت حبلا طوله من هنا إلى الجنة لتتعلق به. وعاد امتناعها مني جنونا دينيا ما يفارقها، فابتلاني هذا بمثل الجنون في حبها من كلف وشغف.
وانحصرت نفسي فيها، فرجعت معها أشد غباوة من الجاهل ينظر إلى مد بصره من الأفق فيحكم أن ههنا نهاية العالم، وما ههنا إلا آخر بصره وأول جهله. وانفلت مني زمام روحي، وانكسر ميزان إرادتي، واختل استواء فكري، فأصبحت إنسانا من النقائض المتعادية أجمع اليقين والشك فيه، والحب والبغض له، والأمل والخيبة منه، والرغبة والعزوف عنها، وفي أقل من هذا يخطف العقل، ويتدله من يتدله.
ثم ابتليت مع هذا اللمم بجنون الغيظ من ابتذالها لأصحابها وعفتها معي، فكنت أتطاير قطعا بين السماء والأرض، وأجد عليها وأتنكر لها، وهي في كل ذلك لا تزيدني على حالة واحدة من الرهبانية؛ فكان يطير بعقلي أن أرى جسمها نارًا مشتعلة، ثم إذا أنا رمته استحال ثلجا، وقرحت الغيرة قلبي وفتتت كبدي من عابدة الشيطان مع الجميع، الراهبة مع رجل واحد فقط!
ورجعت خواطري فيها مما يعقل وما لا يعقل؛ فكنت أرى بعضها كأنه راجع من سفر طويل عن حبيب في آخر الدنيا، وبعضها كأنه خارج من دار حبيب في جواري، وبعضها كأنه ذاهب بي إلى المارستان!
ورأيتنا كأننا في عالمين لا صلة بينهما، ونحن معا قلبا إلى قلب، فذهب هذا بالبقية التي بقيت من عقلي، ولم أر لي منجاة إلا في قتل نفسي لأزهق هذا الوحش الذي فيها.
وذهبت فابتعت شعيرات من السم الوحي الذي يعجل بالقتل، وأخذتها في كفي وهممت أن أقمحها وأبتلعها، فذكرت أمي، فظهرت لخيالي مشدوخة الرأس في هيئة موتها، وإلى جانبها هذه المرأة في هيئة جمالها، وثبتت على عيني هذه