للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال مجاهد: فكيف كنت تراها وكيف عدت تنظر إليها؟

قال: كنت أنظر إليها بعيني وأفكاري وشهواتي، فكانت بذلك أكثر من نفسها ومن النساء، وكانت ألوانا ما تنقضي، فلما دخل بيني وبينها الزمن والعقل، أبعدها هذا عن قلبي وأبعدها ذاك عن خيالي؛ فنظرت إليها بعيني وحدهما، فرجعت امرأة ككل امرأة، وبنزولها من نفسي هذه المنزلة، رجعت أقل من نفسها ومن النساء، وهذه القلة فيما عرفت لا تصيب امرأة عند محبها إلا فعلت بجمالها مثل ما تفعله الشيخوخة بجسمها، فأدبرت به ثم أدبرت واستمرت تدبر!

وأنت فإذا أبصرت امرأة شيخة قد ذهبت التي كانت فيها. وأخطرت في ذهنك نية مما بين الرجال والنساء، فهل تراك واجدًا الشهوة والميل إلا النفرة والمعصية؟ إن هذا الذي كان الحب والهوى والعشق، هو بعينه الذي صار الإثم والذنب والضلالة؟

قال مجاهد: كأنك لما ذهبت تقتل نفسك من حبها قتلتها هي في نفسك؟

قال: يا رحمة قد رحمت بها نفسي يومئذ! أما -والله- إن الذي يقتل نفسه من حب امرأة لغبي. ويحه! فليتخلص من هذا الجزء من الحياة لا من الحياة نفسها. وقد جعل الله للحب طرفين: أحدهما في اللذة، والآخر في الحماقة؛ ما منهما بد، فهذا الحب يلقي صاحبه في الأحلام ويغشي بها على بصره، ثم إن هو اتجه بطرفه السعيد إلى حظه المقبل واتفقت اللذة للمحب، أيقظته اللذة من أحلامه؛ وإن اتجه الحب بطرفه الشقي إلى حظه المدبر، وقعت الحماقات فنونا شتى بين الحبيبين وفعلت آخرا فعل اللذة، فأيقظت العاشق من أحلامه أيضا. وهذا تدبير من الرحمة في تلك القوة المدمرة المسماة الحب، أفلا يدل ذلك على أن اللذة وهم من الأوهام ما دام تحققها هو فناءها؟

خذ عني يا مجاهد هذه الكلمة: "ليس الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها، ولا هو شيء يدرك، ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه".

قال مجاهد: لقد علمت بعدنا علما، فمن أين لك هذا وعمن أخذت؟

قال: عن السماء!

قال: ويلك! أين عقلك؟ فهل نزل عليك الوحي؟

قال الرجل: لا، ولكن تعاليا معي إلى الدار فأحدثكما.

<<  <  ج: ص:  >  >>