قال المسيب: وذهبنا معه؛ فأتينا بطعام نظيف فأكلنا، وأشعرتنا الدار أن ربها قد وقع فيما شاء من دنياه وتواصلت عليه النعمة؛ فلما غسلنا أيدينا قال مجاهد: هيه يا أبا ... يا أبا من؟ قال: أبو عبيد. قال: هيه يا أبا عبيد.
فأفكر الرجل ساعة ثم قال: عهدكما بي منذ تسع في مجلس الإمام الشعبي بالكوفة؛ وقد كنت في بقية من النعمة أتجمل بها، وكانت تمسكني على موضعي في أعين الناس؛ فما زالت تلك البقية تدق وتنفض حتى نكد عيشي ووقعت في الأيام المقعدة التي لا تمشي بصاحبها، وانقلب الزمن كالعدو المغير جاء ليصطلم ويخرب ويفسد، فأثر في أقبح آثاره، فبعت ما بقي لي وتحملت عن الكوفة إلى البصرة، وقلت: إن لم تتغير حالي تغيرت نفسي، ولا أكون في البصرة قد انتهيت إلى الفقر، بل أكون قد بدأت من الفقر كما يبدأ غيري, وأدع الماضي في مكانه وأمضي إلى ما يستقبلني.
فالتمست رفقة فالتأمنا عشرين رجلًا، فلما كنا الطريق، سلبنا اللصوص وحازوا القافلة وما تحويه، ونجوت أنا راكبا فرسي وعمري، وأدركت حينئذ أن الحياة وحدها ملك عظيم، وأنها هي الأداة الإلهية، والباقي كله هو من أنفسنا لأنفسنا والأمر فيه هين والخطب يسير.
وقلت: لو أن اللصوص قد مروا بنا كما يمر الناس بالناس لما نكبونا، ولكنهم عرضوا لنا عروض اللص للمال والمتاع لا للناس، فوضعوا فينا الأيدي الناهبة؛ ومن هذا أدركت أن ليس الشر إلا حالة يتلبس بها من يستطيع أن يتخلص منها. فإذا كان ذلك فأصل السعادة في الإنسان ألا يعبأ بهذه الحالات متى عرضت له، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا، تمثل الشر كما يراه واقعا في غيره؛ فالمرأة العفيفة إذا عرضت لها حالة من الفجور، ونظرت إلى نفسها وحظ نفسها، فقد تعمى وتزل؛ ولكنها إذا نظرت إلى ذلك في غيرها وإلى أثره على الفاجرة، كانت كأنما زادت على نفسها نفسا أخرى تريها الأشياء مجردة كما هي في حقائقها.
قال: ومضيت على وجهي تتقاذفني البقاع والأمكنة, وأنا أعاني الأرض والسماء، وأخشى الليل والنهار، وأكابد الألم والجوع، حتى دخلت البصرة دخول البعير الرازح، قطع الصحراء تأكل منه ولا يأكل منها، فأنضاه السفر وحسره الكلال وتحته الثقل الذي يحمله، فجاء ببنية غير التي كان قد خرج بها. وكانت أيامي هذه عمرا كاملا من الشقاء، جعلتني أوقن أن هؤلاء الناس في الحياة إن هم إلا