كالدواب تحت أحمالها؛ لا تختار الدابة ما تحمل ولا من تحمل، ولا يترك لها مع هذا أن تختار الطريق ولا مدة السير؛ وليس للدابة إلا شيئان: صبرها وقوتها، إن فقدتهما هلكت، وإن وهنا فيها كان ضعفها بحسب ذلك.
إن هناك أوقاتا من الشقاء والبؤس تقذف بالإنسان وراء إنسانيته وإنسانية البشر جميعا، لا تبالي كيف وقع وفي أي واد هلك، فلا ينفع الإنسان حينئذ إلا أن يعتصم بأخلاق الحيوان في مثل رضاه الذي هو أحكم الحكمة في تلك الحال، وصبره الذي هو أقوى القوة، وقناعته التي هي أغنى الغنى، وجهله الذي هو أعلم العلم، وتوكله الذي هو إيمان فطرته بفطرته، لا يبالي الحيوان مالا ولا نعيما، ولا متاعا ولا منزلة، ولا حظا ولا جاها، ولن تجد حمار الملك يعرف من الملك أكثر مما يعرف حمار السقاء من السقاء، ولعلك لو سألتهما وأطاقا الجواب لقال لك الأول: إن الذي فوق ظهري ثقيل مقيت بغيض؛ ولقال لك الثاني: إن الذي يركبه خفيف سهل سمح!
ولكن بلاء الإنسان إنه حين يطوحه البؤس والشقاء وراء الإنسانية، لا ينظر لغير الناس، فيزيده ذلك بؤسا وحسرة، ويمحق في نفسه ما بقي من الصبر, ويقلب رضاه غيظا، وقناعته سخطا، ويبتليه كل ذلك بالفكرة المهلكة أعجزها أن تهلك أحدًا فلا تجد من تدمره غير صاحبها؛ فإذا هي وجدت مساغا إلى الناس فأهلكت وعاثت وأفسدت، فجعلت صاحبها إما لصا أو قاتلا أو مجرما، أي ذلك تيسر!
قال: وكنت أعرف في البصرة فلانا التاجر من سراتها ووجوه أهلها، فاستطرقته؛ فإذا هو قد تحول إلى خراسان، وليس يعرفني أحد في البصرة ولا أعرف أحدًا غيره، فكأنما نكبت مرة ثانية بغارة شر من تلك، غير أنها قطعت علي في هذه المرة طريق أيامي، وسلبتني آخر ما بقي لنفسي، وهو الأمل!
ورأيت أنه ما من نزولي إلى الأرض بد، فأكون فيها إنسانا كالدابة أو الحشرة: حياتها ما اتفق لا ما تريد أن يتفق؛ وأنه لا رأي إلا أن أسخر من الشهوات فأزهد فيها وأنا القوي الكريم، قبل أن تسخر هي مني إذ جئتها وأنا الطامع العاجز!
وفي الأرض كفاية كل ما عليها ومن عليها، ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس؛ وما دامت هذه الدنيا قائمة على التغيير والتبديل وتحول شيء إلى شيء،