فهذا الظبي الذي يأكله الأسد لا تعرف الأرض أنه قد أكل ولا أنه افترس ومزق، بل هو عندها قد تحول قوة في شيء آخر ومضى؛ أما عند الناس فذلك خطب طويل في حكاية أوهام من الخوف والوجل، كما لو اخترعت قصة خرافية تحكيها عن أسد قد زرع لحما, فتعهده فأنبته فحصده فأكله، فذهب الزرع يحتج على آكله، وجعل يشكو ويقول: ليس لهذا زرعتني أنت، وليس لهذا خرجت أنا تحت الشمس، وليس من أجل هذا طلعت الشمس علي وعليك!
والإنسان يرى بعينيه هذا التغيير واقعا في الإنسانية عامتها وفي الأشياء جميعها؛ فإذا وقع فيه هو ضج وسخط، كأن له حقا ليس لأحد غيره، وهذا هو العجيب في قصة بني آدم، فلا يزال فيها على الأرض كلمات من الجنة لا تقال هنا ولا تفهم هنا؛ بل محل الاعتراض بها حين يكون الإنسان خالدًا لا يقع فيه التغيير والتبدليل. ومن هذا كان خيال اللذة في الأرض هو دائما باعث الحماقة الإنسانية.
قال أبو عبيد: وذهبت أعتمل بيدي وجسمي على آلام من الفاقة والضر، ومن الخيبة والإخفاق، ومن إلجاء المسكنة، وإحواج الخصاصة؛ فلقد رأيتني وإن يدي كيد العبد، وظهري كظهر الدابة، ورجلي كرجل الأسير، وعنقي كعنق المغلول، ويطلع قرص الشمس على الدنيا ويغيب عنها وما أعتمل إلا بقرص من الخبز، ولقد رأيتني أبذل في صيانة كل قطرة من ماء وجهي سحابة من العرق حتى لا أسأل الناس، ويا بؤسا لي إن سألت وإن لم أسأل!
وما كان يمسكني على هذه الحياة المرمقة، تأتي رمقا بعد رمق في يوم يوم -إلا كلام الشعبي- الذي سمعته في مسجد الكوفة، وقوله فيمن قتل نفسه؛ فكان كلامه نورا في صدري يشرق منه كل يوم مع الصبح صبح لإيماني. ولكن بقيت أيام نعمتي الأولى ولها في نفسي ضربان من الوجع كالذي يجده المجروح في جرحه إذا ضرب عليه، فكان الشيطان لا يجد منفذا إلي إلا منها. وفقدت الصديق وعونه، فما كان يقبل على صديق إلا في أحلامي من وراء الزمن الأول!
قال مجاهد: والحبيب؟
فتبسم الرجل وقال: إذا فرغت الحياة من الذي هو أقل من الممكن، فكيف يكون فيها الذي هو أكثر من الممكن؟ إن جوع يوم واحد يجعل هذه الحياة حقيقة جافية لا شعر فيها، ويترك الزمن وما فيه ساعة واحدة معطرة, والبؤس يقظة مؤلمة في القلب الإنساني تحرم عليه الأحلام، وما الحب من أوله إلى آخره إلا أحلام القلوب بعضها ببعض!