للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو عبيد: وتضعضعت لهذه الحياة المخزية وأبرمتني أيامها، وحملت في الميت والحي، ورأيت الشيطان -لعنه الله- كأنما اتخذني وعاء مطرحا على طريقه يلقي فيه القمامة، وظهر لي قلبي في وساوسه كالمدينة الخربة ضربها الوباء، فأعمر ما فيها مقبرتها؛ وعاد البؤس وقاح الوجه لا يستحيي، فلا أراه إلا في أرذل أشكاله وأبردها، ولقد يكون البؤس لبعض الناس على شيء من الحياء فيأتي في أسلوب معتذر كالمرأة الدميمة في نقابها.

وقلت لنفسي: ما هو -والله- إلا القتل، فهذا عمر أراه كالأسير أقيم على النطع وسل عليه السيف، فما ينتقم منه المنتقم بأفظع من تأخير الضربة، وما يرحمه الراحم بأحسن من تعجيلها!

وبت أؤامر هذه النفس في قتلها وأحدثها حديث الموت، فسددت رأيي فيه وقالت: ما تصنع بجسم كالمتعفن أصبح كالمقبور لا أيام له إلا أيام انقراضه وتفتيته؟ بيد أني ذكرت كلام "الشعبي" في ذلك المجلس وأنا أحفظه كله، فجعلت أهذه١ ما أترك منه حرفا، واتخذته متكلما مع نفسي لا كلاما، كنت كلما غلبني الضعف رفعت به صوتي وأصغيت كما أصغي إلى إنسان يكلمني فرأيت الشيطان بعد ذلك كاللص إذا طمع في رجل ضعيف منفرد، ثم لما جاءه وجد معه رجلا ثانيا قويا فهرب!

قال أبو عبيد: ونالني روح من الاطمئنان وجدت له السكينة في قلبي فنمت، فإذا الفزع الأكبر الذي لا ينساه من سمع به، فكيف الذي رآه بعينيه؟

رأيتني ميتا في يد غاسله يقلبه ويغسله كأنه حرقة؛ ثم حملت على النعش كأن الحاملين قد رفعوني يقولون: انظروا أيها الناس كيف يصير الناس؛ ثم صلى علي الإمام الشعبي في مسجد الكوفة، ثم دليت في قعر مظلمة وهيل التراب علي، وتركت وحيدًا وانصرفوا!

وما أدري كم بقيت على ذلك ثم رأيت كأنما نفخ في الصور وبعثرت الأموات جميعا، فطرنا في الفضاء، وكانت النجوم غبارًا حولنا كتراب العاصفة في العاصفة، وإذا نحن في عرصات القيامة وفي هول الموقف!

وتوجهت بكل شعرة في جسمي إلى الرجاء في رحمة الله؛ ورأيت أعمالي


١ الهذ: الإسراع في القراءة.

<<  <  ج: ص:  >  >>