للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رؤية أحزنتني، فهي كمدينة عظيمة كل أهلها صعاليك إلا قليلا من المستورين، أرى منهم الواحد بعد الواحد في الساعة بعد الساعة ندروا وتبعثروا وضاعوا كأعمالي الصالحة!

وذكرت أني كدت أقتل نفسي فرارًا بها من العمر المؤلم؛ فنظرت فإذا الزمن قد ظهر في أبديته، ورجع الماضي حاضرا بكل ما حوى كأنه لم يمض، وإذا عمري كله لا يكاد يبلغ طرفة عين من دهر طويل، فحمدت الله أن لم أفتد ألم اللحظة القصيرة القصيرة، بعذاب الأبد الخالد الخالد الخالد.

وجيء على أعين الخلق بأنعم أهل الدنيا وأكثرهم لذات في تاريخ الدنيا كله، فصاح صائح: هذا أنعم من كان على الأرض منذ خلقها الله إلى أن طواها.

ثم غمس هذ المنعم في النار غمسة خفيفة كنبضة البرق، وأخرج إلى المحشر، وقيل له والناس جميعا يسمعون: هل ذقت نعيما قط؟ قال: لا والله.

ثم جيء بأتعس أهل الأرض وأشدهم بؤسا منذ خلقت الأرض، فغمس في الجنة غمسة أسرع من النسيم تحرك ومر، ثم أخرج إلى المحشر وقيل له: هل ذقت بؤسا قط؟ قال: لا والله.

وسمعنا شهيق جهنم وهي تفور تكاد تميز من الغيظ؛ فأيقنت أن لها نفسا خلقت من غضب الله، وخرج منها عنق عظيم هائل، لو تضرمت السماء كلها نارا لأشبهته، فجعل يلتقط صنفا صنفا من الخلق، وبدأ بالملوك الجبابرة فالتقطهم مرة واحدة كالمغناطيس لتراب الحديد؛ وقذف بهم إلى النار، ثم انبعث فالتقط الأغنياء المفسدين فأطارهم إليها؛ ثم جعل يأخذ قوما قوما، وقد ألجمني العرق من الفزع؛ ثم طرت أنا فيه، ونظرت، فإذا أنا محتبس في مظلمة نارية كالهاوية، ليس حولي فيها إلا قاتلو أنفسهم. ولو أن بحار الأرض جعل فيها البحر فوق البحر فوق البحر، إلى أن تجتمع كلها فيكون العمق كبعد ما بين الأرض والسماء، ثم تسجر نار تلظى، لكانت هي الهاوية التي نحن في أعماقها؛ وكنت سمعت من إمامنا الشعبي: أن عصاة المؤمنين الموحدين إذا ماتوا على إيمانهم كانوا في النار أحياء وجوارحهم موتى، لأن هذه الجوارح قد أطاعت الله وسبحته فكرمت بذلك حتى على جنهم، ثم يعذبون عذابا فيه الرحمة، ثم يخرجون وينتظرهم إيمانهم على باب النار، فكان إلى جانبي رجل قتل نفسه، فسمع قائلا من بعيد يقول لمؤمن: اخرج فإن إيمانك ينتظرك. فصاح الذي إلى جانبي: وأنا، أفلا ينتظرني إيماني؟ فقيل له: وهل جئت به؟

<<  <  ج: ص:  >  >>