القبر كلمة الصدق مبنية متجسمة، فكل ما حولها يتكذب ويتأول، وليس فيها هي إلا معناها لا يدخله كذب ولا يعتريه تأويل. وإذا ماتت في الأحياء كلمة الموت من غرور أو باطل أو غفلة أو أثرة، بقي القبر مذكرا بالكلمة شارحا لها بأظهر معانيها، داعيا إلى الاعتبار بمدلولها، مبينا بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية.
القبر كلمة الأرض لمن ينخدع فيرى العمر الماضي كأنه غير ماضي، فيعمل في إفراغ حياته من الحياة١ بما يملؤها من رذائله وخسائسه، فلا يزال دائبا في معاني الأرض واستجماعها. والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تلو الحيوان ويقتاس به، فشريعته جوفه وأعضاؤه، وترجع بذلك حيوانيته مع نفسه الروحانية، كالحمار مع الذي يملكه ويعلفه، ولو سئل الحمار عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حماري.
القبر على الأرض كلمة مكتوبة في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حي في قانون نهايته، فلينظر كيف ينتهي.
إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبار بها والجزاء عليها، فالحياة هي الحياة على طريقة السلامة لا غيرها، طريقة إكراه الحيوان الإنساني على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلها أصلا في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها، إذ كانت روحانيته في النهايات لا في بداياتها.
في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتا تعمل أعمالها؛ فإذا انتهت الحياة انقلبت أعمال الإنسان ذاتا يخلد هو فيها؛ فهو من الخير خالد في الخير، ومن الشر هو خالد في الشر؛ فكأن الموت إن هو إلا ميلاد للروح من أعمالها؛ تولد مرتين: آتية وراجعة.
وإذا كان الأمر للنهاية فقد وجب أن تبطل من الحياة نهايات كثيرة، فلا يترك الشر يمضي إلى نهايته بل يحسم في بدئه ويقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأن في كل ما لا يحسن أن يبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتد: كالعداوة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب؛ وما شابه هذه أو شابهها، فإنها كلها انبعاث من الوجود الحيواني وانفجار من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبر كي تسلم للنفس إنسانيتها إلى النهاية.