الحياة منهدم، وهل فرق بيين هذا وبين أن تكون أمها قد ولدتها في الصحراء ثم أكرهت أن تدعها وحدها في ذلك القفر تصرخ وتبكي! فالمسكينة على الحالين منقطعة أول ما انقطعت من حنان الأم ورحمتها.
طفلة ولدت صارخة، لا صرخة الحياة، ولكن صرخة النوح والندب على أمها.
صرخة حزينة معناها: ضعوني مع أمي ولو في القبر!
صرخة ترتعد، كأن المسكينة شعرت أن الدنيا خالية من الصدر الذي يدفئها!
صرخة تتردد في ضراعة، كأنها جملة مركبة من هذه الكلمات:"يا رب ارحمني من حياة بلا أم! ".
قال المسكين وهو يبكي امرأته:
ولما ضربها المخاض، ضاعفت قوتها من شعورها أنها ستكون بعد قليل مضاعفة بمولودها، وستكون روحين لا روحا واحدة، وتلد لي الحياة والحب الإلهي معا، وتأتي لقلبي بمثل طفولته الأولى التي يستحيل أن تأتي الرجل إلا من زوجه. كل ذلك ضاعف قواها ساعة وشد منها؛ ولكن ما أسرع ما تبينت أنه الموت، إذ عضلت وعسر خروج مولودها.
وجاءها الجراحى بمبضعه، وكأنها رأته ذابحا لا طبيبا، فجعلت تعبر بعينيها، إذ لم تملك في آلامها القاتلة غير لغة هاتين العينين.
كانت بنظرة تبكي علي وعلى بؤسي، وبأخرى تبكي على بؤس مولودها وشقائه؛ وبنظرة تودعني، وبأخرى تدعو الله لي جزاء ما أحسنت إليها؛ وبنظرة تتوجع لنفسها، وبأخرى تتألم من أنها تراني أكاد أجن.
نظرات نظرات ...
يا إلهي! لقد خيل إلي أن ملك الموت واقف بين عشرين مرآة تحيط به، فأنا أراه موتا متعددا لا موتًا واحدًا، وكل نظرة من عيني زوجتي إلي كانت منها هي نظرة، وكانت عندي أنا مرآة الروح للروح.
ولكنها لم تنس أنها تموت لوضع مولودها، وأن هذه الآلام الدموية الذابحة هي الوسيلة لأن تترك لي بقية حية منها؛ فيا للرحمة والحنان والحب! لقد ابتسمت لي وهي تموت؛ وهي تلد؛ وهي تذبح!