للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ليست رحمة المرأة المحبة خيالا إلا إذا كانت حرارة الشمس التي تحيي الدنيا خيالا أيضا؛ إن هذا القلب النسوي المستقر فوق أحشاء تحمل الجنين صابرة راضية فرحة بآلامها، وتغذوه وتقاسمه حياة نفسها، هذا القلب يحمل الحب أيضا صابرًا فرحًا بآلامه، ويغذوه ويقاسمه حياة نفسه.

وللرحمة الإلهية أدلة كثيرة تدل الإنسان عليها دلالات مختلفة؛ فالشمس تدل عليها بالضوء الذي تطعمه الحياة، والهواء يدل عليها بالضوء الذي تتنفسه الحياة، والماء يدل عليها بالضوء الذي تشربه الحياة، وهكذا إلى أن يأتي في الآخر قلب المرأة فيدل على رحمة الله بالحب الذي تقوم به الحياة.

ابتسامة الحب غالبت زفرات الموت التي تعتلج من تحتها حتى غلبتها، وأعادت الحياة لحظة إلى وجه زوجتي لأراها آخر ما أراها في صورة المحبة لي، فكان كل جمال نفسها منتشرا على ذلك الوجه، وظهرت فيه روحها وعواطفها تودعني وداعا حزينا متبسما يتكلم؛ يتكلم بعجزه عن الكلام.

ابتسامة لا ريب أن فيها أشياء ليست من جمال هذه الدنيا ولا من حقائقها؛ فكأنما التمعت بأشعة من الخلد ترف رفيفها على وجه الحبيب ليظهر ساعة الموت أن حبه أقوى من الموت.

قال المسكين: ونثر الطبيب ذا بطنها فكانت طفلة، وما كانت زوجتي تقترح أن يكون الجنين غيرها، بل كان مستيقنة أنها تضعها أنثى، وصنعت لها ثيابها، ووشتها بزينة الأنوثة، وعرضت أسماء البنات فاختارت اسمها أيضا، وكنت أكره ذلك منها وأريد ولدًا لا بنتًا، فكانت تغايظني بعملها وإصرارها غيظ دعابة لا غيظ جفاء.

ومضت لا تذكر إلا بنتها مدة الحمل، ولا تتكلم إلا عن بنتها وقد كنت أعجب لذلك؛ فلما قضى الله فيها قضاءه، علمت أن ذلك أمر من أمر الروح، فكان الإلهام فيه أنها على باب قبرها، وأنها لن ترى طفلتها، ولن تعيش لها، فعاشت أيام الحمل مع ذكراها, تضم ثيابها إلى صدرها وتحملها على يدها، وتناغيها وتقبلها، وتأخذها من الوهم وتردها إليه؛ وكذلك نعمت المسكينة بالمسكينة!

لك الله يا معجزة الرحمة، يا نفس الأم!

<<  <  ج: ص:  >  >>