للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولما قيل: ماتت. جعل يكلمني المتكلم ولا أعقل؛ فإن الكلمة التي تأتي بالمصيبة المتوقعة طال ارتقابها، لا تأتي بمعان لغوية كغيرها من الكلام، بل بأسلحة تضرب في النفس وفي العقل، وتثخنهما جراحا وفتكا.

وجعلني موتها كأني ميت يحمل نفسه، ما حوله إلا المشيعون، وأحسست كأن قوة أخذت بإحدى رجلي فوضعتها في الآخرة وتركت الثانية في الدنيا، ولحقني من الجزع ما الله عالم به، ووجدت أحرق الوجد، وبكيت أحر البكاء؛ وجعلت أفكاري تنحدر من رأسي إلى حلقي فأختنق بها ثم لا ينفس عني إلا الدمع، كأن أعضائي اختلت مما ضغطني من الحزن، فأنا أتنفس برئتيّ وعينيّ.

بموتها شعرت بها؛ ولعله من أجل ذلك لا يشعر الإنسان بلذة الحب كاملة إلا في آلام الحب وحدها، وكانت في حياتها تضع من روحها في سروري، وهذا هو سر المرأة المحبوبة؛ يجد محبها في كل سرور لمحات روحانية؛ وكذلك فعلت بعد موتها، فجعلت روحها في أحزاني؛ ولولا أن روحها في أحزاني لقتلتني المصيبة.

وكنت أدلف وراء النعش وقد بطل في نفسي الشعور بالدنيا، وكان الناس يمشون حولي بما فيهم من الحياة، وكانوا ذاهبين إلى المقبرة على أنهم سائرون كما يذهبون إلى كل مكان؛ أما أنا فكنت أمشي بما في من الحب منكسرًا منخذلًا متضعضعًا، لأني وحدي سائر وراء ما لا يلحق.

وثقل الناس على قلبي، ورجع كل أمرهم عندي إلى العيب والنقيصة، إذ كان لي عقل طارئ من الحالة التي أنا فيها ليس مثله لأحد منهم، وكنت وحدي المصاب بينهم، فكنت وحدي بينهم العاقل.

أنا أمشي لأنتهي إلى آخر مصيبتي، وهم يمشون لينتهوا إلى آخر الطريق؛ وشتان ما نحن وشتان!

ولما رأيت قبرها ابتدرت عيناني تنظران بالدموع لا بالنظر، ورأيت التراب كأنه غيوم ملونة بألوان السحب الداكنة تتهيأ في سمائها تحت الظلام لتخفي كوكبا من الكواكب؛ وظهر لي القبر كأنه فم الأرض يخاطب الإنسان بحزم صارم، يخاطب الفقير والغني، والضعيف والقوي، والملوك والصعاليك: "أن كل قوة تنزع هنا".

قال المسكين: وكما يجد الإنسان في أيام المطر رائحة النسيم المبتل بالماء، كنت أستروح في رجعتي إلى الدار رائحة نسيم مبتل بالدموع، وحضرت المأتم

<<  <  ج: ص:  >  >>