للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظرت إلى المنديل وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئا -يرحمك الله- ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها؛ حسبت فيها خشوع ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا؛ بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة. إن شدة الهم لتجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين، في عين من يراها من الآباء والأمهات، لعجز هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي وانقطاعهم إلا من الله والقلب الإنساني، فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ بمعانيه يقول: يا رباه يا رباه!

قال أحمد بن مسكين: وخيل إلي حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه, والناس عمي لا يبصرونها، وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن مرور الحمير بقصر الملك؛ لو سئلت فضلت عليه الإصطبل الذي هي فيه.

وذكرت امرأتي وابنها وهما جائعان مذ أمس، غير أني لم أجد لهما في قلبي معنى الزوجة والولد, بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها، فأسقطتهما عن قلبي ودفعت ما في يدي للمرأة وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك، ووالله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام؛ ولولا هذه الخلة بي لتقدمت فيما يصلحك، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ولكن طم على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة، ولا للبسمة معنى البسمة.

وقلت في نفسي: أما أنا فأطوي إن لم أصب طعاما، فقد كان أبو بكر الصديق يطوي ستة أيام، وكان ابن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم؛ ولكن من للمرأة وابنها بمثل عقدي ونيتي؟ وكيف لي بهما؟

ومشيت وأنا منكسر منقبض، وكأني نسيت كلمة الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة". فذكرتها وصرفت خاطري إليها وشغلت نفسي بتدبرها وقلت: لو أني أشبعت ثلاثة بجوع اثنين لحرمت خمس فضائل١ وهذه الدنيا محتاجة إلى الفضيلة، وهذه الفضيلة محتاجة إلى مثل هذا العمل، وهذا العمل محتاج إلى أن يكون هكذا، فما يستقيم الأمر إلا كما صنعت.


١ يريد جوعه، وجوع امرأته، وجوع ابنه، ثم شبع هذه المرأة، وشبع ابنها، فهذه خمس فضائل.

<<  <  ج: ص:  >  >>