وكانت الشمس قد انبسطت في السماء وذلك وقت الضحى الأعلى، فملت ناحية وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار ومن يبتاعها، فأنا كذلك إذ مر أبو نصر الصياد وكأنه مستطار فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ههنا وفي دارك الخير والغنى، قلت: سبحان الله! من أين خرجت السمكة يا أبا نصر؟
قال: إني لفي الطريق إلى منزلك، ومعي ضرورة القوت أخذتها لعيالك، ودراهم استدنتها لك، إذا رجل يستدل الناس على أبيك أو أحد من أهله, ومعه أثقال وأحمال، فقلت له: أنا أدلك. ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه عند أبيك. فقال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودعه مالا من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسر بعد المحنة، واستظهر بعد الخذلان، وأقبل جده بالثراء والغنى؛ فعاد إلى البصرة, وأراد أن يتحلل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في هذه الثلاثين سنة، وإلى ذلك طرائف وهدايا.
قال أحمد بن مسكين: وأنقلب إلى داري فإذا مال جم وحال جميلة! فقلت: صدق الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة"! فلو أن هذا الرجل لم يلق في وجهه أبا نصر، في هذه الطريق، في هذا اليوم، في هذه الساعة، لما اهتدى إلي؛ فقد كان أبي مغمورًا لا يعرفه أحد وهو حي؛ فكيف به ميتا من وراء عشرين سنة؟
وآليت ليعلمن الله شكري هذه النعمة؛ فلم تكن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجريت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، حتى تمولت وتأثلت.
وكأني قد أعجبتني نفسي، وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض، والهول هول الكون الأعظم على الإنسان الضعيف، يسأل عن كل ما مسه من هذا الكون. وسمعت الصائح يقول: يا معشر بني آدم! سجدت البهائم شكرًا لله أنه لم يجعلها من آدم. ورأيت الناس وقد وسعت أبدانهم فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات!