وقيل: وضعت الموازين. وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم بلفافة من القطن.
ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كانت أصنعه فإذا تحت كل حسنة شهوة خفية من شهوات النفس: كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس وغيرها، فلم يسلم لي شيء, وهلكت عني حجتي، إذ الحجة ما يبينه الميزان، والميزان لم يدل إلا على أني فارغ.
وسمعت الصوت: ألم يبق لي شيء؟ فقيل: بقي هذا.
وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها! فأيقنت أني هالك؛ فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنت عني، ورأيتها في الميزان مع غيرها شيئا معلقا، كالغمام حين يكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك.
ووضعت الرقاقتان، وسمعت القائل: لقد طار نصف ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد. فانخذلت انخذالا شديدا، حتى لو كسرت نصفين لكان أخف علي وأهون.
بيد أني نظرت فرأيت كفة الحسنات قد نزلت منزلة ورجحت بعض الرجحان.
وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا.
وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم! وإذا هو شيء يوضع في الميزان، وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية. وثبت الميزان على ذلك فكنت بين الهلاك والنجاة.
وأسمع الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا.
ونظرت فإذا دموع تلك المرأة المسكينة حين بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، ووضعت غرغرة عينيها في الميزان ففارت، فطمت كأنها لجة، من تحت اللجة بحر؛ وإذا سمكة هائلة قد خرجت من اللجة وقع في نفسي أنها روح تلك الدموع، فجعلت تعظم ولا تزال تعظم، والكفة ترجح ولا تزال ترجح، حتى سمعت الصوت يقول: قد نجا!
وصحت صيحة انتبهت لها, فإذا أنا أقول:"لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! ".