للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قلت: حدثني حسين المغازلي١: أن بشرا -رحمه الله- كان لا يأكل إلا الخبز تورعا عن الشبهات واكتفاء لضرورة الحياة بالأقل والأيسر، وكاني يقول في ذلك يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة. وسئل مرة: بأي شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافية فأجعلها إدامًا. وقد أعانه على ذلك أن لم يتزوج، وكان يرى هذا نقصا في نفسه حتى فضل الإمام أحمد بن حنبل بأشياء: منها أنه له أهلًا؛ غير أنه قيل له ذات يوم: لو تزوجت تم نسكك، فقال: أخاف أن تقوم الزوجة بحقي ولا أقوم بحقها، فكانت هذه النية في نفسه أفضل من زواجه.

وكان مع هذا لا يؤاكل أحدًا، ولا يسعى إلى لقاء أحد، حتى أنه لما رغب في مؤاخاة الزاهد العظيم "معروف الكرخي"، أرسل إليه "الأسود بن سالم" وكان صديقا لهما، فقال لمعروف: إن بشر بن الحارث يريد مؤاخاتك وهو يستحيي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعقد له فيما بينه وبينك أخوة يحتسبها ويعتد بها؛ إلا أن يشترط فيها شروطا: أولها أنه لا يحب أن يشتهر ذلك، وثانيها ألا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة، فقال معروف: أما أنا فإذا أحببت أحدًا لم أحب أن أفارقه ليلا ولا نهارا، وأزوره في كل وقت، وأوثره على نفسي في كل حال؛ وأنا أعقد لبشر أخوة بيني وبينه، ولكني أزوره متى أحببت، وآمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها إذا هو كره زيارتي.

قال حسين المغازلي: وكان هذا كله من أمر بشر معروفا في بغداد، لا يجهله أحد من أهلها، إذ لم يكن لبغداد إمام غيره وغير ابن حنبل؛ فما كان أكثر عجبي حين كنت عنده يوما وقد زاره "فتح الموصلي"، فقام فجاء بدراهم ملء كفه ودفعها إلي وقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام، وأطيب من ما تجد من الحلوى، وأطيب ما تجد من الطيب، وما قال لي مثل ذلك قط، وهو الذي رأى الفاكهة يوما فقال: ترك هذه عبادة! وهو القائل لأبي نصر الصياد: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة٢.

فذهبت فاشتريت وانتقيت وتخيرت، ثم وضعت الطعام بين أيديهما، فرأيته يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، ورأيته منبسطا إليه وما لي عهد كان بانبساطه إلى


١ نسبة إلى عمل المغازل، وكان حسين هذا صديقا لبشر، وكان بشر يعمل المغازل ويعيش من ثمنها، ومن كلامه لابن اخته عمر: يا بني، اعمل بيدك؛ فإن أثره في الكفين أحسن من أثر السجدة بين العينين. هكذا كانوا رحمهم الله.
٢ مر هذا في مقال "السمكة".

<<  <  ج: ص:  >  >>