أحد. وقد كنت أخبرته في ذلك النهار بخبر أحمد بن حنبل, علمته من إدريس الحداد: فإنه لما زالت المحنة بعد أن ضرب بين يدي المعتصم وصرف إلى بيته، حمل إليه مال كثير من سروات بغداد وأهل الخير فيها، فرد جميع ذلك ولم يقبل منه قليلا ولا كثيرا، وهو محتاج إلى أيسره، وإلى الأقل من أيسره، وإلى الشيء من أقله، فجعل عمه إسحاق يحسب ما ورد ذلك اليوم، فكان خمسين ألف دينار، فقال له الإمام: يا عم، أراك مشغولا بحساب ما لا يفيدك. قال: قد رددت اليوم كذا وكذا ألفا وأنت محتاج إلى حبة من دانق. فقال الإمام: يا عم، لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه.
قال المغازلي: فنمت تلك الليلة وأنا أفكر في صنيع الشيخ، وقد تعلق خاطري به: كيف انقلبت الحال معه، وأي شيء هذا الحال؟ وجعلت أكد ذهني لأعرف الحقيقة العقلية التي سلطت عليه هذه الضرورة فتسلط النعيم على نفسه، وأنا أعلم أن للقوم علوما روحانية ليست في الكتب، فمنها ما لا يتعلمونه إلا من الفقر، ومنها ما لا يتعلمونه إلا من البلاء، ومنها، ومنها؛ ولكن ليس منها ما يتعلمونه من اللذات والشهوات؛ وذهب قلبي إلى أوهام كثيرة ليس في جميعها طائل ولا بها معرفة، حتى غلبتني عيناي، وأنا من وهج الفكر نائم كالمريض، وقد ثقل رأسي واختلط فيه ما يعقل بما لا يعقل.
فرأيت أول ما رأيت ملكا جبارا يحكم مدينة عظيمة, وقد أطلق المنادي في جمع كل أطفال مدينته، فجيء بهم من كل دار، ثم رأيته قد جلس على سريره وفي يده مقراض عظيم، قد اتخذه على هيئة نصلين عريضين لو وضعت بينهما رقبة لفصلاها عن جسمها، فكان هذا الجبار يتناول الطفل من أولئك فيضع أصابع إحدى قدميه في شقي المقراض فيقرضها، فإذا هي تتناثر أسرع مما يقرض المقص الخيط، ثم يرمي بالطفل مغشيا عليه، ويتناول غيره فيبتر أصابعه، والأطفال يصرخون، وأنا أرى كل ذلك ولا أملك إلا غيظي على هذا الجبار من حيث لا أستطيع أن أمضي فيه هذا الغيظ فأقرض عنقه بمقراضه.
ثم رأيته يأخذ طفلا صغيرًا، فلما جاءت قدم الطفل بين شقي المقراض صاح: يا رب، يا رب، فإذا المقراض يلتوي فلا يصنع شيئا، وكأن فيه حجرًا صلدا لا قدما رخصة. فتميز الجبار من الغيظ وقال: من هذا الطفل؟ فسمعت هاتفا يهتف: هذا بشر الحافي! لا يبلغ تاج ملك في الأرض أن يكون لقدمه الحافية نعلا عند الله!