وكان إلى يميني رجل يتوضأ وجهه صلاحا وتقوى، فقلت له: من هذا الطاغية؟ ولم اتخذ المقراض لأقدام الأطفال خاصة؟
فقال: يا حسين! إن هذا الجبار هو ذل العيش, وهذا وسمه لأهل الحياة على الأرض، يحقق به في الإنسان معنى البهيمة أول ما يدب على الأرض, حتى كأنه ذو حافر لا ذو قدم.
قلت: فما بال هذا الطفل لم يعمل فيه المقراض؟
قال: إن لله عبادًا استخصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل؛ فإذا اطرح أحدهم للشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد نية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكنه رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة، كما يحمل البطل الأروع أسلحة الجسم في معاركه الدامية: هذا يتعلم منه فن، وذلك يتعلم منه فن آخر، وكلاهما يرمى به على الموت لإيجاد النوع المستعز من الحياة، فأول فضائله الشعور بالقوة، وآخر فضائله إيجاد القوة.
قال المغازلي: وضرب النوم على رأسي ضربه أخرى، فإذا أنا في أرض خبيثة داخنة، قد ارتفع لها دخان كثيف أسود يتضرب بعضه في بعض وجعلت أرى شعلا حمرا تذهب وتجيء كأنها أجسام حية، فوقع في وهمي أن هؤلاء هم الشياطين: إبليس وجنوده، وسمعت صارخا يقول: يا بشرى! فلتبك السماء على الأرض، لقد أكل بشر الحافي من أطيب الطعام وأطيب الحلوى بعد أن استوي عنده حجرها ومدرها، وذهبا وفضتها! فعارضه صائح أسمع صوته ولا أرى شخصه: ويلك يا زلنبور١! إن هذا شر علينا من عامة نسكه وعبادته؛ فهذا -ويحك- هو الزهد الأعلى الذي كان لا يطيقه بشر؛ إنه إعنات سلطه على نفسه، فإني دفعت هذا "المغازلي" الأعمى القلب ليزين له ما فعل أحمد من حنبل من رده خمسين ألف دينار على حاجته، زهدًا، وورعا، وقوة عزم، ونفاذ إرادة؛ وقلت: عسى أن تتحرك في نفسه شهوة الزهد فيحسد أو يغار، أو تعجبه نفسه فيكون لي من ذلك لمة بقلبه فأوسوس له، فإنا نأتي هؤلاء من أبواب الثواب كما نأتي غيرهم
١ هذا اسم بعض ولد إبليس فيما يروى، وفي بعض النسخ التي بأيدينا أنه خنزب لا زلنبور.